خاص|| أثر برس لا فرق كبير بين تأييد التقارب مع تركيا أو رفضه، باعتبار أن الحديث يتواتر تواتراً متزايداً، بكثير من الرغبوية أو المخيالية، التي “تضمر” مخاوف عميقة، و”تسكت” عن وقائع بالغة الحساسية والتعقيد. ولا جدوى من النقاش في أمر يتكرر بين فترة وأخرى، لكن من دون أي تأثيرات جدية في أرض الواقع، وطالما أن الواقع، كان ولا يزال، “يتحرك” بمعزل عن الخطب والتصريحات.
تقع القراءات والتقديرات المتحمسة لتصريحات التقارب في نوع من الخطأ المركب أو التصنيفي -إذا استعرنا تعابير فريديريك جيمسون- والخلط بين: الرأي، والتحليل، والتقييم. المشكلة في قراءات من هذا النوع أن أي خطاب أو تصريح “يعيد إنتاج” تصور المشهد ككل، من دون أي “ربط” بينه وبين الواقع.
الرأي؟
إن الحديث عن “التقارب” مسألة جذابة كفكرة، لكنه ليس كذلك في الواقع، أو أنه لا يصبح كذلك عند محاولة “تصييره واقعاً”: من أين تكون البداية، وما “خريطة الطريق”، وكيف يمكن التنفيذ، وعلى ماذا يمكن التوافق، وعلى ماذا لا يمكن التوافق؟ تحيل الأسئلة إلى أمور بالغة التعقيد، وغالباً ما تُحال إلى مرحلة لاحقة مفترضة.
ثمة مخيالية ورغبوية هنا، كما تتكرر الإشارة. لا بأس أن تتحدث الأطراف عن التقارب، علَّ الحديث يسهم في زحزحة المدارك والهواجس والتقديرات السلبية العميقة، بشرط ألا تحدث أمور في الميدان تعكر خط الحديث أو تعرقله. لا من الطرفين نفسيهما، ولا من أطراف ثالثة.
هل ذكرنا أطرافاً ثالثة؟ هذا خطر جداً، لعل من الأفضل السكوت عنه، من منظور الحماسيين والمتعجلين. ماذا نستطيع أن نقول مثلاً حيال واشنطن أو تل أبيب مثلاً؟ ألا “تَمُونان” على أنقرة؟ وماذا تفعل الأخيرة إن قَدَّمَت لها واشنطن عرضاً مناسباً بشأن “دمشق” أو “قسد”؟ أو ضغطت عليها بشدة للحد من أي تقارب محتمل بينها وبين دمشق؟ تقول المواقف الرغبوية: دعنا من الأفكار المزعجة. هذا النمط من الأسئلة يجعل الأمور أكثر سوءاً، ولا يبعث على التفاؤل.
ماذا عن التقييم؟
إن دمشق وأنقرة، ومعهما الأطراف المساعدة أو الوسيطة، تقول -منذ عدة سنوات- “الشيء نفسه تقريباً” حول التقارب، بل إن بين موسكو وطهران، ومؤخراً بغداد، نوع من المنافسة على “القول الحسن” و”الدفع الحسن” من أجل “التقارب” بين دمشق وأنقرة، لكن هل من جديد هنا؟ هل يعقل أن الوقائع خلال السنوات الماضية، وخصوصاً منذ اتفاقات أستانا، واجتماعات موسكو وسوتشي، وبالطبع اجتماعات طهران وأنقرة وبغداد، لا تستدعي تغييراً ما في النمط أو خط المعنى؟ أليس من المناسب التركيز بعض الشيء على إحداث تغيرات في الواقع أو الميدان؟ مرة أخرى، قد يفضل الرغبويون السكوت عن الأسئلة، لأن الأسئلة لا تبعث على التفاؤل، بل تكاد تنغص وتشوش!
ماذا عن التحليل؟
ثمة أسئلة أكثر صعوبة هنا؟ من قبيل: ماذا يدفع دمشق وأنقرة لـ”التقارب” بالفعل، وليس مجرد “الحديث عن تقارب”: هل هي مدارك جدية وعميقة لدى كل منهما تجاه الآخر، أم محاولة لـ “تغيير النمط” و”كسر الجمود”، أم “مخاطبة أطراف أخرى”؟.
هل “الإدارة الذاتية” هي “طرف آخر” أو “طرف ثالث” بنظر دمشق وأنقرة، ولفكرة التقارب بينهما؟ قد تكون كذلك للأخيرة (أنقرة)، لكن من الصعب سحب ذلك إلى دمشق. دمشق لا تريد النظر لـ”الإدارة الذاتية” و”قسد” على أنهما أعداء يجب محاربتهما، وإنما موضوع “احتواء” و”تفكيك”، و”إعادة إنتاج” أو “إعادة إدراج” في المجتمع والدولة. دمشق لا تريد توجيه الحراب ضد جزء من المجتمع والدولة.
وبالتالي فإن دمشق تريد البحث عن “حل” أو “تسوية” في أفق مجتمع ودولة سُوريَّين. والمرجح أنها سوف تحاول فعل كل شيء ممكن -بالتنسيق مع أي أطراف أخرى- للحيلولة دون حدوث مواجهة مفتوحة أو حرب.
هل التقارب مع أنقرة هو السبيل الوحيد لتجاوز عقدة “الإدارة الذاتية”، المرتبطة مع عقدة أخرى، هي واشنطن، الحليفة لأنقرة؟ ماذا نفعل والحال كذلك؟ هل أنقرة بصدد أن تفعل شيئاً -بالتنسيق مع دمشق- حيال خصمٍ داعمُهُ الرئيسُ هو حليفُها (أعني أنقرة) الرئيس في المنطقة والعالم؟ قد يكون رهان دمشق من التقارب هو ممارسة أقصى الضغوط على واشنطن و”الإدارة الذاتية” لتغيير النمط في منطقة الجزيرة السورية. والرهان اليوم هو كيف يمكن “تفكيك” مدارك التهديد لدى أنقرة بهذا الخصوص؟.
الرؤية والنمط
تمثل “استعمالات” و”توظيفات” المسألة السورية في تركيا نفسها، وخصوصاً من قبل الرئيس أردوغان وحزبه، واحدة من العوائق الفعلية والمعرفية حيال التقارب مع دمشق. والسؤال: هل يستطيع أردوغان أن يفعل شيئاً يناقض بالفعل السياسات التي اتبعها حيال دمشق منذ العام 2011؟ وكيف يبرر أردوغان ذلك أمام مواليه من الأتراك (والسوريين)؟ والأهم، هل هو مستعد لتغيير الرؤية والنمط حقاً؟.
الأكثر أهمية من ذلك كله: ماذا يتوقع الرجل من التقارب مع دمشق؟ هل التقارب على أساس خرائط القوة والسيطرة اليوم، بكل رهاناتها الثقيلة وغير القابلة لـ”التلقي” أو “الصرف” سورياً؟ هل يكفي الوعد بالانسحاب؟ وما قيمة الوعد هنا، هل يمكن لروسيا وإيران أن تضمنا ذلك؟ ومن يستطيع أن يضمن أردوغان في أمور من هذا النوع؟ ولماذا الإصرار على اللقاء مع الرئيس بشار الأسد، قبل أن تتضح معالم “خريطة طريق” بهذا الخصوص؟.
أي مقابل؟
ما تريده دمشق من أنقرة واضح، وقد عّبر عنه الرئيس بشار الأسد في مواضع عدة، ولكن ما تريده أنقرة من دمشق “غير واضح”، من منظور دمشق على الأقل. هل فَكَّرَ أحدٌ بـ”المقابل”؟ ومن يحدده أو يُقَيِّمه؟ هل تنظر موسكو وطهران إليه من منظور دمشق أم من منظور كل منهما؟ لا شك أنهما تنظران للتقارب من منظورهما أساساً، وهذا أمر مفهوم، إنما من المهم أن يأخذا منظور دمشق بقدر أكبر من الاعتبار. مرة أخرى، الأسئلة مشوشة ومزعجة، فضلاً عن عدم وجود إجابات عنها، حتى الآن.
أولوية الواقع
لكن مهلاً، ويبدو أننا نستدرك على ما ذُكِرَ أعلاه، ذلك أن موقف “المتحفظين” تجاه خطاب التقارب ليس أفضل حالاً، ولو أنه أكثر واقعية، إن أمكن التعبير. يقول المتحفظون أو الواقعيون أن مجرد التدقيق في الخرائط والرهانات يفتح الأمور على أسئلة بالغة التعقيد، ويفضي إلى “جَبَلٍ” أو “سَيلٍ” من المشكلات والعقد التي يصعب الحديث عنها أو المضي في نقاش جاد أو معمق بشأنها.
والآن، ألا يمثل التقارب حاجة فعلية وواقعية وذات أولوية لدمشق وأنقرة، هل يمكن المقارنة بين التنافر والتقارب، بالنسبة لبلدين جارين، تواجهان تحديات كبيرة ومتزايدة، ويبدو أنهما أخذا يدركان، وخصوصاً من جهة أنقرة، مدى الحاجة إلى تغيير النمط والرؤية، وإن ما كان بينهما منذ العام 2011 لم يكن هو المسار الصحيح الواجب اتباعه، ثم تبدو الفرصة سانحة للبدء من جديد؟.
رهان الاحتلال
تواجه المحللين الواقعيين مشكلات في طريقة القراءة، وفي تفكيك أو تجاوز طبقات من المواقف والسياسات والوقائع بالغة القسوة على الأرض. الموقف ليس مجرد تصريحات، ولا مجرد التراجع عن خطاب سياسي معاد، بل هو قتل وقتال واحتلال أراض، ومخيالية تدميرية كانت تريد، ليس مجرد احتواء سوريا أو تغيير النظام السياسي فيها، بل “ابتلاعها” أولاً، ثم التفكير: هل يتم تشكيلها كيانية أو دولة أو شبه دولة تابعة كلياً لتركيا، مع أفضلية اقتطاع أجزاء منها؟.
يبدو أن احتلال أجزاء من سوريا كان مسألة حيوية لتركيا. ليس احتلال الجغرافيا فحسب، وهو حاصل، وبالمناسبة فإن تركيا تحتل بصورة مباشرة أو غير مباشرة مساحة تعادل مساحة لبنان تقريباً؛ وإنما احتلال منظومات القيم ومدارك المعنى والهوية والولاء والانتماء لشريحة كبيرة نسبياً من المجتمع في سوريا أيضاً، وهو حاصل أيضاً وأيضاً.
في الختام
إن خطاب التقارب ليس كخطاب التنافر، وهو مطلوب في ظل الظروف الراهنة، باعتباره حاجة وضرورة للجميع، لا شك في ذلك. لكنه ليس “مفتوح الصلاحية”، و”ليس مهماً بذاته”، ثمة تأثير أو مقتضى له، يجب أن يظهر في الواقع. وليس المطلوب خطوات أو وقائع تكتيكية، ولا مجرد مؤشرات حسن نية، بل المطلوب هو وقائع “غير عكوسة” أو “غير نكوصية”، في أفق تفكيك العقد الكبيرة والكثيرة التي حكمت الموقف في سنوات الحرب.
وما أصعبها من أجندة!
الدكتور عقيل سعيد محفوض