خاص|| أثر برس يُفترض أن تؤثر التغيرات في النظام العالمي، كما يجري الحديث عنها، في المواقف والسياسات حيال أزمة عزة، مقارنة بأزمات أخرى مثل أوكرانيا، لكن هذا لم يحدث، حتى الآن، كما لو أن الكلام عن “نهاية العالم كما نعرفه”، بتعبير أيمانويل والرشتين، بدا –باعتبار حرب غزة- في غير محلة، التغير في العالم ليس قليلاً، طال كل شيء في العالم اليوم: السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع والقيم وغيرها، إلّا ما يخص “إسرائيل”، كما لو أنها تمثل واحدة من “نقاط الثبات” أو “عدم التغيير” في العالم!
لا يغير من ذلك الانتقادات السياسية والإعلامية التي تطلقها بعض الدول الفاعلة في العالم مثل روسيا والصين وجنوب إفريقيا ضد حرب “إسرائيل” على غزة. ولم تجد الدول التي تنافس أمريكا على قمة النظام العالمي الحوافز أو مدارك التهديد- الفرصة الكافية لجعل حدث غزة “بؤرة صراع” تستخدمها ضد أمريكا.
يمكن القول إن حدث غزة مثّل اختباراً للمقاربات المتعلقة بتغير النظام العالمي أو التغيرات البنيوية فيه من “الأحادية القطبية” إلى “التعددية القطبية” أو الـ”لا قطبية”، وتراجع الوزن النسبي لقوة ومكانة وهيمنة الولايات المتحدة في إدارة شؤون العالم .. إلخ، وبالتالي تراجع قدرتها على تحديد ما يصح وما لا يصح –من منظورها هي- في كثير من الأحداث والتطورات فيه.
وحتى لا نقطع في أمر يتطلب مقاربة من المنظور المديد، بينما حدث غزة لا يزال قائماً وراهناً جداً، حتى بعد مرور وقت بعيد نسبياً على اندلاعه، فإن الاختبار الأولي يحيل إلى تغيرات قد تكون مهمة، وخاصة في الجانب الثقافي والقيمي والأخلاقي، لكنها لا تزال أقل من التقديرات أو التوقعات. ويبدو أن العالم لا يزال بعيداً عن “النقطة الحرجة” للتحول في شكله وديناميات الفعل فيه.
ومواقف الدول والمجتمعات والجماعات والمنظمات حول العالم، على أهميتها، لم تتحول إلى اصطفافات متقابلة، كما لم تتحول الانتقادات إلى مواقف فعلية، ولم تفرض تغيراً في مواقف “إسرائيل” وحلفائها بشأن غزة. لا شك أن مواقف دول مثل: جنوب إفريقيا وعدد من دول أمريكا اللاتينية وآسيا وبعض السياسيين الأوربيين، ضغطت سياسياً وإعلامياً ونفسياً على “إسرائيل”، لكن ذلك لم يؤثر جدياً في أساليبها وتكتيكاتها العسكرية في غزة.
وقفت أمريكا (والغرب عامة) بكامل قوتها إلى جانب “إسرائيل”. ومنحها الرئيس الأمريكي جو بايدن تفويضاً شبه كامل لضرب غزة وتدميرها وقتل وتهجير سكانها. وأرسل سفنه الحربية لردع أي دول يمكن أن تفكر في المشاركة في الحرب ضدها. ومارس الكذب الصريح وأعاد تأكيد دعاية إسرائيلية كاذبة، حتى بعد أن انكشف زيفها. وحضر وزير خارجيته أنتوني بلينكن “مجلس الحرب” الإسرائيلي، وتحدث كما لم يفعل أي وزير خارجية آخر في العالم، قال من تل أبيب: “جئت إلى تل أبيب للتضامن مع إسرائيل، ليس بصفتي وزير خارجية لأمريكا فحسب، وإنما بصفتي يهودياً أيضاً”.
وجنّد الغرب مؤسساته الإعلامية والثقافية والسياسية … لتبرير ما تفعله “إسرائيل”، وبالطبع إدانة المقاومة الفلسطينية. وحظرت دول مثل فرنسا أي نشاطات مؤيدة لفلسطين بذريعة “معاداة السامية”. وحظرت منابر إعلامية كبرى ومؤسسات مواقع التواصل الاجتماعي المنشورات المؤيدة للفلسطينيين، وقيدت الوصول للمعلومات حول جرائم الحرب في غزة.
لا شيء يقابل أو يعادل هذا الموقف من قبل الأطراف الدولية المؤيدة للفلسطينيين. صحيح أن انتقادات بعض الأطراف لـ”إسرائيل” كانت حادة نسبياً، لكن ذلك لم تتبعه إجراءات عقابية، وبالتالي فإن ذلك لم يغير كثيراً في الموقف، وبدا العالم كما لو أنه لا يزال محكوماً بـ”أحادية قطبية صلبة”، إن أمكن التعبير، ويعاني أزمة قيمية وأخلاقية حادة.
قد يكون الموقف العربي والإسلامي مؤشراً على عدم الرغبة في الضغط الجدي على “إسرائيل” وحلفائها. ولو أن الدول العربية أبدت موقفاً أكثر إقداماً، أو أظهرت دعماً مؤثراً لغزة، لربما حفَّزَ ذلك الدول الأخرى على اتخاذ مواقف مشابهة. لكن بعض الدول العربية، قرأت حدث غزة قراءة مختلفة، وَعَدَّتْهُ “حدثاً إيرانياً” في جوانب منه، ويُراد منه “تعطيل” مسار التطبيع بينها وبين “إسرائيل”. وهذا يتوافق مع قراءة “إسرائيل” نفسها للحدث. بل إن بعض الأطراف ناهضت المقاومة بكيفية مباشرة وغير مباشرة، وتملصت من المسؤولية الأخلاقية والإنسانية حيال الفلسطينيين.
وأما فيما يخص روسيا والصين، فلا شك أنهما مستاءتان من حجم القتل والدمار في غزة، لكنهما سعدتا بتورط أمريكا وإرباكها واهتزاز صورتها في المنطقة، وانشغالها عنهما، لكنهما لم تجدا مبرراً سياسياً واستراتيجياً كافياً لمزيد من الضغط على “إسرائيل” وأمريكا، دعك من التعبيرات السياسية والبلاغية والتصريحات والتغطيات الإعلامية، فهي على أهميتها، لا تُصرف في الحرب والسياسة، أو أن تأثيرها وعائديتها ضعيفان نسبياً، مقارنة بمواقف أمريكا والغرب مع “إسرائيل”.
ومن المهم التذكير هنا بأن “حماس” لم تكن -في أي وقت- جزءاً من اصطفاف إقليمي ودولي مؤيد لروسيا والصين. بل بخلاف ذلك، إذ كانت ضد روسيا في الأزمة السورية وإلى حد ما الأوكرانية، وضد الصين في موضوع “الأوغور” مثلاً. لكن ماذا عن مواقف “إسرائيل”؟ الأقرب أنها كانت على الدوام تقريباً في أفق السياسة الأمريكية تجاه الدولتين المذكورتين: روسيا والصين.
وهكذا، فإن الاحتجاجات المناهضة لحرب “إسرائيل” على غزة، والتي جرت في عدة بلدان حول العالم، بما في ذلك أمريكا وبريطانيا وفرنسا، لم يكن من السهل “صرفها بالسياسة” في صالح غزة، إن أمكن التعبير. ولا يزال العالم خلا استثناءات قليلة أكثر تقبلاً – أو غير رافض بالتمام- لما تفعله “إسرائيل” حيال الفلسطينيين.
لا شك أنه ثمة تغيرات مهمة في اتجاهات القوة والمعنى في النظام لعالمي، لكنها ما زالت تتحرك في أفق النظام العالمي نفسه، الذي يوصف عموماً بأنه “أحادي القطبية”، ولم تقدم بديلاً جدياً عنه، وبالتالي لا تزال التغيرات جزءاً من ديناميات متعاكسة في قلب النظام أو في أُفقه، كما سبقت الإشارة، بين إعادة إنتاجه أو تكييفه أو إحداث تغييرات فيه.
وبالتالي، قد يعاكس الموقف العالمي من حدث غزة مؤشرات كثيرة حول تغيير جدي في النظام العالمي، لكنه لا يقطع مع وجود تلك التغيرات. ولعله –ويبدو أننا نكرر هنا- أحد “نقاط الثبات” في كثير مما يجري. لكن التغير هو أحد سنن التاريخ.
بالطبع، لا يصح أن يكون حدث غزة هو الحَكَم الفصل في قراءة ما يحدث على هذا الصعيد. بانتظار ما قد تتكشف عنه الأمور. إذ ثمة ما لا يمكن توقعه من تطورات وتداعيات، والتي أحياناً ما تتجاوز الحدث نفسه. وكثير من الأمور يفسرها ما بعدها.
الدكتور عقيل سعيد محفوض