عروض كثيرة يتم الإعلان عنها في طرقات المدن السورية وعلى أثير الإذاعات وشاشات التلفاز، تتعدد الهدايا كي نسعد أمهاتنا في عيدهن، لم تعد “طنجرة الضغط”، والمكنسة الكهربائية، وفناجين القهوة، وصحون الطعام، هي الهدية الأفضل للأمهات، بل بات بإمكانك أن تهدي والدتك يوماً من “لمة العيلة”، الأمر الذي بات من النادر حصوله بسبب ما عصفت به الحرب.
منذ بداية شهر آذار؛ عُلقت لوحة إعلانية على مدخل حارات دمشق تعلن عن رخصة لهدايا عيد الأم، تمر أم مجد يومياً من أمام تلك اللوحة لكنها لم تعد تنظر إلى تلك اللافتات باهتمام.
تذكر الامرأة الخمسينية فرحتها بهدية ابنتها رزان، خلاطٌ على الكهرباء. بهدوء تسكب قهوتها في الفناجين، “لقد اختصرت الكثير من أدوات المنزل” تقول هذا الكلام وتضحك ضحكة خافتة، لكن في الحقيقة لم يتبق لها سوى أربعة فناجين، وطنجرة كبيرة، كانت تعد فيها الرز بالحليب، توقفت عن صنعه منذ ثلاث سنوات مضت.
مجد غادر إلى هولندا مع عائلته، ورزان حصلت على لم الشمل في ألمانيا، لم يتبق لها سوى الطنجرة الكبيرة التي كانت تعد فيها حلوى عيد الأم، والكثير من القهر والحزن. تقول أم مجد: “لا عيد لنا إلا مع أولادنا، فإما يعودون إلينا، أو نذهب نحن، مع أني أشك أن هذا اليوم قريب.”
عيد “أون لاين”
تتفقد أم محمد في كل صباح حالات أبنائها الخمسة على الواتس اب، تزوج ثلاثة من أبنائها في الخارج، حضرت حفلات زفافهم عبر شاشة الهاتف والبث المباشر. تقول: “لم يتبق لدي سوى ابنة صغيرة، لم أعرف من عيد الأم سوى الدموع، فمنذ أن غادر أبنائي لم يعد يوجد من أحتفل معه، رغم أنهم يتصلون ويرسلون لي الأغاني والنقود كي أشتري الأغراض التي أحتاجها، لكن هذا لا يفرح قلبي. تتابع: “كنا نختلف حول الأطعمة التي يفضلونها كي أعدها لهم، كنت أحب صنع “الكبة” لكنهم كانوا يفضلون المعجنات، اليوم أعد طعامهم المفضل وأرسل لهم الصور، لم أعد أشعر بطعم الفرح، لكني لا أريد لأبنائي أن يشعروا بحزني كي يبقوا بخير وسلام”.
يحاول خلدون أن يعرف ما اذا كن أخواته سيزرن والدته ويحتفلن بعيد الأم. هذا أول عيد له وهو بعيد عن عائلته. يقول: “أدرك مع اقتراب هذا العيد أهمية تلك المناسبات التي كنت أهرب من حضورها، كنت أتحجج بضجة الأولاد و”العجقة” التي كان يتسبب بها إخوتي وأولادهم. اليوم تضج أصواتهم في ذاكرتي، تناديني أمي وتطالبني بالجلوس على سفرة كانت تتسع لعشرين شخصاً، لا تدري من يضع لك صحن التبولة أو يقدم قطعة اللحم التي تحبها. كانت والدتي تعرف أكلاتي المفضلة ومتكيفة مع طباعي”.
يضيف الشاب الثلاثيني: “اليوم أدركت الفقدان الذي صرت أعيشه، لا أريد لأمي أن ترى دموعي، لا أريد أن تعرف مدى انكساري، لكن صوتي يخونني في بعض الأحيان، وخاصة في تلك اللحظات التي أكون فيها ضعيفاً. اليوم أدرك لماذا كانت تلومني، لماذا كانت تريديني دائماً من المتفوقين، لكن هذا الكلام لم يعد يجدي، ما أعرفه أني أشتاق لتلك التفاصيل الصغيرة التي لن تعود”.
“شيء لـ لله”
“شي لـ لله” هكذا تقول ساهرة عندما توزع كعكها على الجيران، تعده في المساء ومع الفجر تذهب لتزور ابنها في مقبرة بريف دمشق، توفي خلال الحرب قبل سنتين، رفضت تغيير مكان سكنها كي تبقى قريبة منه. كان في سنته الثانية لدراسة الأدب العربي، قطفته الحرب لتترك أمه ثكلى، تزور القبور وتوزع الحلويات وتطعم الجيران من الأكلات المفضلة لابنها.
تقول ساهرة: لم أعد أملك عيوناً أبكي بها بعد أن جفت دموعي، لكني وجدت في صنع الكعك وزيارة قبر ابني العزاء لي”، تتلمس ساهرة قلادة علقتها على صدرها تحفظ فيها صورة ابنها. تتابع: “في العيد القادم أتمنى أن أُدفن إلى جواره، لا أريد أن أجلس وأعد الأيام على غيابه، لا يوجد أعياد للفرح، هي فقط مناسبات تحفر في قلبي الحزين”.
بقلم: نسرين علاء الدين| هنا صوتك