زياد غصن ـ خاص|| أثر برس
مع الإعلان المفاجئ عن اجتماع وزراء الدفاع في روسيا، سوريا، وتركيا، وما تبعه من تقييمات ايجابية وتسريبات لبعض النقاط التي قيل إنه جرى الاتفاق عليها، تدخل سوريا عامها الجديد على وقع سيناريوهات جديدة قد لا تحمل معها انفراجات كاملة، إنما قد يؤسس بعضها لانفراجات محدودة. وهذه ليست بنظرة تشاؤمية بقدر ما هي مقاربة لتطورات أخرى ارتبط بها العام 2022، وتؤثر تأثيراً مباشراً على مجريات الأزمة السورية وتفاعلاتها الإقليمية والدولية.
ربما يكون الشأن الاقتصادي هو أكثر ما يستحوذ على اهتمام السوريين، ولذلك فإنني سأحاول هنا تقديم رؤية تحليلية موجزة لما يمكن أن يكون عليه الوضع الاقتصادي في ضوء السيناريوهات المرتقبة، وسقف المتغيرات وأهميتها واستمراريتها، والأهم ما المطلوب إنجازه حكومياً لملاقاة ما قد يحدث من تطورات إيجابية على المستوى الإقليمي.
لنبدأ بمراجعة بعض التطورات التي شهدتها الساحة السورية خلال الفترة الماضية أو كان لها ارتباط بالأزمة السورية:
-صدور تصريحات تركية متكررة عن رغبة رسمية بفتح قنوات تواصل مع الحكومة السورية، ثم يتطور الأمر إلى عقد اجتماعات عدة أمنية ثنائية برعاية روسية، وصولاً إلى الاجتماع الثلاثي الأخير على مستوى وزراء الدفاع وإدارات المخابرات العامة. وبغض النظر عن الأسباب التي حدثت بأنقرة لتغيير موقفها من العلاقة مع الحكومة السورية، إلا أن تسارع الأحداث على خلاف ما هو متوقع يعني أن أنقرة ذاهبة إلى أقصى ما يمكن في استعادة علاقاتها مع دمشق على الأقل على المدى المنظور.
-حديث إعلامي عن زيارة قام بها مدير إدارة المخابرات العامة السورية إلى الرياض. زيارة لها أكثر من دلالة إن حدثت بالفعل. فهي من ناحية تؤكد أن البلدين لم يقفلا قنوات التواصل الثنائية رغم مرور سنوات على اللقاء الأمني الأول الذي جرى في العام 2015 ولم يثمر عن تحولات جذرية على مستوى علاقات البلدين رسمياً. ومن ناحية أخرى فهي تأتي في وقت تعيد الرياض ترتيب علاقاتها الخارجية على قاعدة المصالح الوطنية المباشرة، وتالياً فإن حضور العامل الأمريكي يصبح أقل من السابق في التأثير على استعادة البلدين لعلاقاتهما الثنائية.
-اتخاذ الولايات المتحدة الأمريكية خطوات تصعيدية جديدة حيال الملف السوري أخطرها إقرار قانون الكبتاغون، والذي يسعى إلى تشديد العقوبات على دمشق بحجة محاربة تجارة المخدرات، والحيلولة من دون حصول أي انفتاح عربي أو إقليمي على دمشق. فضلاً عن رسائلها الجديدة في المنطقة الشرقية، سواء من خلال قيامها بتسيير دوريات مشتركة لها مع وحدات “قسد”، أو توريد مزيد من الأسلحة لبعض الفصائل المحلية في المنطقة الشرقية.
واشنطن العائق
في ضوء هذه التطورات يمكن استخلاص الاستنتاجات التالية:
-أن أي انفتاح سياسي على دمشق سيكون وفق الواقع الراهن من دون موافقة أمريكية، وتالياً فإن المخاوف من ردات فعل الموقف الأمريكي ستبقى هاجساً مؤثراً على مستوى وزخم العلاقات المراد إقامتها مع دمشق ومجالاتها، لاسيما في المجال الاقتصادي حيث الحذر من التعرض لعقوبات أمريكية سيكون حاضرة في حسابات أي شركة أو جهة خارجية تود أن تتعامل مع السوق السورية. وربما تكون العلاقات الاقتصادية بين سوريا وعدد من الدول العربية خير مثال على ذلك. لكن ولاعتبارات كثيرة، فإن تداعيات العلاقة التي يمكن أن تتشكل مع تركيا قد تكون أكثر مردودية من غيرها.
-تكمن أهمية الانفتاح السياسي على دمشق في عدة فوائد أهمها إغلاق دمشق لجبهات معادية في النطاق الإقليمي، وفتح قنوات للتعاون الأمني يساعدها على تثبيت حالة الأمن الداخلي، وإمساك جزء كبير وهام من الحدود ومعابرها، وهذه ليست بحاجة إلى حصول بعض الدول على رضا أمريكي أو حتى استثناء من العقوبات، لاسيما وأن المرشحين لاستعادة علاقاتهما مع دمشق هما اليوم على خلاف شديد مع واشنطن حيال سياساتها في المنطقة، تركيا التي تتهم واشنطن بدعم مجموعات كردية انفصالية تهدد أمنها القومي، والرياض الطامحة لتوسيع نطاق علاقاها الإقليمية والدولية بعيداً عن المظلة الأمريكية.
-أياً كانت الدولة التي سوف يرتفع علمها أولاً فوق سفارتها في دمشق، أنقرة أم الرياض أم غيرهما، فإن الخطوة ستكون مشجعة للدولة الأخرى لتسرع من مباحثاتها مع دمشق، خاصة وأن كل منها لديها مصالح حيوية وتريد استعادتها وتنميتها على مختلف الصعد السياسية، الأمنية، والاقتصادية. فضلاً عن الوساطة الروسية التي أثبتت فاعليتها وقدرتها على تجاوز كثير من العوائق. لكن هل لدى هذه الدول القدرة على مساعدة دمشق على الخروج من أزمتها ورعاية حل سياسي يكون مقبولاً من السوريين والمجتمع الدولي؟
-وماذا عن حوار دمشق مع قسد؟ هذا ربما أول سؤال تبادر إلى الأذهان مع سماع خبر الاجتماع الثلاثي الأخير. هل ستمنح دمشق فرصة أخرى لـ”قسد” أم أن الأمر بات متعلقاً بمستقبل مباحثاتها ونقاشاتها مع أنقرة؟ لا يبدو أن “قسد” سيكون لديها فرصة ثانية، وإن حصلت عليها فهي ليست في ظروف مشابهة لما كانت عليها قبل شهرين أو ثلاث، ومع ذلك فإن مسألة حسم استعادة الحكومة السورية سيطرتها على المنطقة الشرقية ليس بتلك السهولة التي توقعها البعض لسببين: الأول أن القوات الأمريكية ما تزال موجودة على الأرض، ومن غير المتوقع أن تدخل دمشق في صراع عسكري مع التحالف الغربي. والثاني أن “قسد” لديها قوات تعدادها كبير وتفكيكها من دون تشكيل خطر يحتاج إلى جهود كبيرة. ثم ماذا لو قررت “قسد” الدخول في مواجهة مع الجيشين السوري والتركي؟
المكاسب الاقتصادية
تعالوا إلى الشأن الاقتصادي لنرى ما سقف النتائج والمتغيرات الاقتصادية التي يمكن أن تحملها التحولات السياسية إن سارت كما هو مخطط لها…
ما دامت العقوبات الغربية، والأمريكية تحديداً، سارية المفعول فإن المفاعيل الاقتصادية لأي انفتاح سياسي لن تحل أزمتنا الإقتصادية كما نتمنى، ولن تنهي مشاكلنا المعيشية كما نرغب، إنما هي ستخفف من أوجاعنا ومشاكلنا، وتخرجنا تدريجياً من الضيق إلى الفرج المحدود. ومثالنا هو الأفق الاقتصادية للعلاقة مع تركيا، والتي يمكن تحديدها وفق النقاط التالية:
-إعادة تنشيط حركة الترانزيت بين البلدين، بحيث تستعيد سوريا مكانتها على خريطة الترانزيت الإقليمية وهو ما يوفر لخزينتها العامة بعض الكميات من القطع الأجنبي، ويوفر لصادراتها المختلفة نحو روسيا وبعض الدول الأوروبية منفذاً برياً قليل التكاليف مقارنة بالبحر. لكن لابد هنا من التوضيح أن العودة إلى الاتفاقيات السابقة لن يكون مجدياً لسوريا، إذ إن سيارات الترانزيت التركية كانت معفاة من رسوم العبور، بينما السيارات السورية العابرة للأراضي التركية كانت مضطرة لدفع رسوم عبور.
-وقف ظاهرة تهريب المنتجات التركية إلى الأراضي السورية، والتي تستنزف حالياً ما يزيد سنوياً على 1.8 مليار دولار من المناطق الخاضعة حالياً لسيطرة الحكومة أو الخارجة عن سيطرتها وهي قيمة السلع المهربة وفق البيانات الرسمية التركية. وهذه الظاهرة تركت تأثيراتها السلبية على سعر صرف الليرة وعلى المنتجات الوطنية، وعليه فإن وقف الظاهرة وإخضاع المستوردات من تركيا لسلم الاحتياجات الوطنية يمكن أن ينعكس إيجاباً على سعر الصرف والمنتج الوطني.
-الاستفادة من السوق التركية في توفير العديد من السلع والمنتجات الضرورية، الأمر الذي سيكون له انعكاساته الإيجابية على الوقت وتكاليف الاستيراد والأسعار النهائية. فالعقوبات الغربية وارتفاع بدلات المخاطر لعمليات النقل والتأمين الخاصة بالتجارة مع سوريا يتسبب بزيادة التكاليف بحدود وصلت إلى 50% وهذه تكاليف سيتم تقليصها كثيراً.
– إمكانية استفادة سوريا من ربط شبكتي الغاز السورية والتركية للتزود بالغاز الروسي ومعالجة أزمة توليد الطاقة الكهربائية في البلاد. فكما معلوم فإن شبكة الغاز السورية مربوطة مع شبكة الغاز التركية ضمن مشروع خط الغاز العربي عبر وصلة حلب-كلس وهي لا تحتاج سوى إلى عمليات صيانة وتجهيز لتكون جاهزة للتشغيل.
-إمكانية الاستفادة من تحويلات السوريين المقيمين في تركيا إلى أقاربهم في الداخل، لاسيما الذين حصلوا على جنسية تركية ويعملون فيها وأسسوا مشروعات متعددة، فهذه التحويلات تستفيد منها مكاتب وشركات غير شرعية أو خارج البلاد. والتقديرات الأممية تتحدث عن وجود 3.6 مليون لاجئ سوري في تركيا. وأياً كان عدد الراغبين أو المضطرين للعودة فإن هناك رقم ليس بالقليل سيفضل البقاء في تركيا بحكم الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها سوريا اليوم.
ما المطلوب حكومياً؟
هناك ملفين يفترض على الحكومة العمل عليهما بعقلانية وبجرأة عالية، وهما:
الأول وهو ملف إعادة دراسة وبحث جميع الاتفاقيات السابقة الموقعة مع تركيا، وتوفيقها لتكون متوافقة مع الأوضاع الاقتصادية الحالية وما تفرضه من متطلبات واحتياجات، فمثلاً هل من مصلحة سوريا في هذه الظروف إعادة العمل باتفاقية منطقة التجارة الحرة الثنائية بين البلدين؟ وهل التسهيلات الممنوحة سابقاً لسيارات الترانزيت التركية المتجهة إلى دول الخليج لا تزال صالحة للتطبيق حالياً؟ وماذا عن تنقل الأفراد والبضائع المحلية؟
أما الملف الثاني فهو يتعلق بالقرارات التي يجب أن تتخذ للاستفادة من الانفتاح الاقتصادي المرتقب مع تركيا لإنعاش الاقتصاد السوري بدلاً من زيادة ثروات تجار الحرب وشبكات المصالح. فالمطالبة بوقف تهريب المنتجات والبضائع القادمة من تركيا يحتاج إلى قرار داخلي عالي المستوى بمواجهة أمراء وشبكات التهريب المنظمة، والتي اعتادت على جني أرباحاً هائلة منذ العام 2012، وللعلم فإن المهربات التركية إلى الأراضي السورية تشكل تقريباً ما نسبته 45% من قيمة المستوردات السورية الرسمية في العام 2022. وهذا يدل على حجم الغنائم الكبيرة التي كان يحققها أمراء التهريب من تركيا. كذلك يحتاج الواقع الجديد إلى تحويل الشعارات المتعلقة بدعم الإنتاج إلى إجراءات عملية على الأرض وتخفيف القيود وإزالة العوائق، وإلا فإننا مع الانفتاح الإقتصادي المحدود أو الجيد مع تركيا سوف نخسر ما تبقى من منتجين وصناعيين. وهناك الكثير من الجوانب الأخرى التي هي بحاجة إلى إعادة تموضع للسياسات والإجراءات الحكومية الفعلية.
أما إذا بقي الحال على ما هو عليه من سياسات وإجراءات في إدارة الملف الاقتصادي الداخلي، فإن دائرة المستفيدين من إعادة إحياء العلاقات الاقتصادية مع تركيا ستكون ضيقة ومحدودة، وتالياً فالمواطن لن يلمس منها شيئاً.