زياد غصن || أثر برس ثمة قراءة سياسية مختلفة تتبناها إلى الآن بعض وسائل الإعلام العربية والأجنبية حيال حقيقة الموقف السوري من حرب غزة. هذه القراءة تخلص إلى أن دمشق فضلت في هذه المرحلة “الحياد” في حرب غزة، والتمايز تالياً عن موقف حلفائها في “محور المقاومة”، الأمر الذي أثمر عن مزيد من الانفتاح الخليجي على سوريا.
ويستشهد مؤيدو هذا الرأي بحدثين مهمين: الأول عدم إلقاء الرئيس بشار الأسد كلمة له أمام القمة العربية الأخيرة في البحرين. وهذا ما اعتبره البعض تكريساً لموقف “الحياد” السوري وتنفيذاً لمطالب خليجية. والحدث الثاني كان في تعيين السعودية سفيراً لها في دمشق في أعقاب اللقاء الذي جمع الرئيس الأسد بولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهي خطوة بنظر البعض كانت بمنزلة “مكافأة” لدمشق على حيادها المذكور. فهل كانت سوريا فعلاً طوال الأشهر الماضية “محايدة” في حرب غزة؟
“حياد” سياسي!
لا يعرف ما المقصود بمصطلح “الحياد” المستخدم في توصيف الموقف السوري من حرب غزة. هل هو “الحياد” السياسي أم العسكري أم الاثنان معاً؟
لنبدأ بالتعرف إلى الموقف السياسي السوري وجوهره من الحرب”الإسرائيلية” على قطاع غزة، والذي لا يحتاج إلى كثير من العناء لتتبع تفاصيله ومؤشراته، والتي يمكن إيجازها بالنقاط الآتية بحسب تسلسلها الزمني:
-إعلان الرئاسة السورية تأييدها عملية “طوفان الأقصى” منذ اللحظات الأولى لإعلان العملية، وذلك بنشر الصفحات الرسمية للرئاسة على شبكات التواصل الاجتماعي صورة حملت وسم “طوفان الأقصى”، وتضمنت خريطة فلسطين وصورة للمسجد الأقصى والعلم الفلسطيني.
-إعلان الحكومة السورية الحداد ثلاثة أيام على شهداء مجزرة المشفى المعمداني في مدينة غزة، والذي دمرته قوات الاحتلال الإسرائيلي على الرغم من علمها المسبق بوجود آلاف المرضى والنازحين فيه.
-مشاركة الرئيس الأسد في القمة العربية –الإسلامية المشتركة التي عقدت في الرياض خلال شهر تشرين الثاني 2023، وإلقائه كلمة طالب فيها بـ”إيقاف أي مسار سياسي مع الكيان الصهيوني بكل ما يشمله المسار السياسي من عناوين اقتصادية أو غيرها لتكون عودته مشروطة بالتزام الكيان بالوقف الفوري المديد لا المؤقت للإجرام بحق كل الفلسطينيين في كل فلسطين، مع السماح بإدخال المساعدات الفورية إلى غزة”.
-البيانات الصحافية الصادرة عن وزارة الخارجية السورية، والتي كانت تندد بالصمت العالمي حيال الجرائم والمجازر الإسرائيلية المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، وتأييد سوريا لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وفق القرارات الدولية الصادرة بهذا الخصوص.
-تخصيص الرئيس الأسد حيزاً كبيراً من كلمته خلال الاجتماع الموسع للجنة المركزية لحزب البعث في شهر أيار للحديث عن القضية الفلسطينية وتأكيده أن موقف سوريا “ثابت منذ نشوء القضية الفلسطينية، ولم يهتز للحظة أو ظرف ولا أتحدث عن هذه الحرب، أقول عن القضية الفلسطينية منذ عام 1948 بكل الظروف التي مرت بها سوريا والانقلابات والاستقرارات وغيرها، لا يجرؤ مسؤول في سوريا على التنازل تجاه القضية الفلسطينية، ولا نتنازل اليوم، لأن جوهر القضية لم يتغير، ولأن العدو نفسه لم يتغير، والمتغير الوحيد هو الأحداث بشكلها الخارجي، فالمجازر ليست بطارئة على سلوك الكيان الصهيوني سواء ازدادت أو انخفضت، لا يهم، والانحياز الغربي الأعمى للصهيونية من قبل الدول الغربية ليس بجديد، أما التخاذل العربي تجاه القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا فهو ليس بمفاجئ، الفارق اليوم أن عناصر القضية تعرت وانكشفت وافتضحت بسبب وسائل التواصل الاجتماعي من جانب، وبسبب آخر وطبعا هو الأهم الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني”.
-وإذا كان البعض قد فسر عدم إلقاء الرئيس الأسد كلمة في القمة العربية الأخيرة تعبيراً عما يسمونه سياسة النأي بالنفس عما يحدث في غزة فهذه سذاجة ما بعدها سذاجة، إذ إن الأسد فضل الصمت على أن يوجز قضية قومية كبرى كقضية فلسطين في ثلاث دقائق، وفضل الصمت في زمن يذبح فيه شعب عربي على أن يتحدث في ثلاث دقائق عن فشل النظام العربي في وقف التطبيع السياسي والاقتصادي الذي كان على حساب الحقوق العربية.
-معظم قادة ومسؤولي فصائل المقاومة الفلسطينية لا يزالون في سوريا، ويمارسون نشاطهم السياسي بمختلف أشكاله بما فيه الإعلامي في وضح النهار، وهذا يمكن ملاحظته بوضوح بالظهور الواسع والمتكرر للشخصيات الفلسطينية المقيمة في دمشق على الفضائيات العربية منذ السابع من أكتوبر الماضي.
“حياد” عسكري!
في البعد العسكري هناك مجموعة حقائق لا يمكن تجاوزها عند محاولة مقاربة الموقف السوري من الحرب “الإسرائيلية” على قطاع غزة. من هذه الحقائق ما يلي:
-في جميع المواجهات التي تمت بين فصائل وحركات المقاومة في فلسطين ولبنان وبين العدو الإسرائيلي كانت سوريا حاضرة بتقديم مختلف أشكال الدعم السياسي والعسكري. وصحيح أن الدعم العسكري لم يترجمه دخول الجيش السوري مباشرة في تلك المواجهة، لكن الأيام أثبتت أن ذلك الدعم كان له الأثر الأكبر في صمود وانتصار فصائل المقاومة. فمثلاً في عدوان تموز من العام 2006 اتهمت سوريا من قبل البعض آنذاك أنها تخلت عن حليفها الأساس “حزب الله” وتركته وحده في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، لتمر السنوات ويكشف أمين عام حزب الله في تموز من العام 2012 بعضاً من جوانب الدعم الذي قدمه الجيش السوري للحزب في مواجهته للعدوان الإسرائيلي خلال عدوان تموز، من فتح مستودعات سلاحه أمام عناصر الحزب إلى المساهمة في تطوير القدرة الصاروخية وما إلى ذلك.
-دخول الجيش السوري في الحرب الحالية ليس بالقرار السهل. فالجيش المنتشر اليوم على مساحة الجغرافيا السورية منذ العام 2012 وخاضت عناصره مئات المعارك القاسية، سيكون من الصعب عليه فتح جبهة جديدة ستجعله على مواجهة مباشرة مع “القوات الإسرائيلية” والأمريكية في وقت واحد. كما أن التجربة أكدت وجود تزامن بين كل عدوان إسرائيلي يستهدف الأراضي السورية وبين هجمات الفصائل المسلحة التي تحاول استثمار العدوان لتحقيق بعض التقدم الجغرافي.
-تزايد وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية منذ عملية طوفان الأقصى، واستهدافها بعض المواقع العسكرية والمنشآت المدنية والمستشارين الإيرانيين العاملين في سوريا، وهو تطور يظهر حجم الحنق الإسرائيلي من الدور السوري-الإيراني المشترك في عملية إسناد فصائل المقاومة على مختلف الجبهات، سواء في فلسطين المحتلة أم في لبنان أم حتى في العراق وغيرها.
-سماح الحكومة السورية لبعض فصائل المقاومة الفلسطينية بتنظيم عرض عسكري بمناسبة يوم النكبة. وهذا العرض له رمزيتان: الأولى أنه الأول والأضخم منذ سنوات بعيدة. والثانية أنه نظم في قلب مخيم اليرموك في العاصمة دمشق. فلو كانت سوريا نحت فعلاً باتجاه “الحياد” لما سمحت بتنظيم مثل هذا العرض الاستثنائي غير المعتاد لنشاط الفصائل في دمشق.
ربما..!
بعد كل ذلك، يأتي من يقول إن الموقف السوري من الحرب “الإسرائيلية” على قطاع غزة كان حيادياً ومتمايزاً عن موقف حلفائها في محور المقاومة، إلا إذا كان هؤلاء يرون أن عدم إعلان سوريا، المنهكة بعد 13 عاماً من أزمة صنعتها وأججتها أيد عربية وغربية، الحرب على “إسرائيل” هو بمنزلة موقف “محايد”!.