زياد غصن ـ خاص|| أثر برس
هذه إحدى الحالات التي تجتمع فيها الإجراءات البيروقراطية الحكومية مع تأثيرات العقوبات الغربية لعرقلة تنفيذ مشروع استراتيجي، باتت تكلفته اليوم بالعملة الوطنية تشكل ما يزيد على 15% من موازنة العام الحالي.
القصة، التي تتردد على ألسنة العاملين في وزارة الكهرباء ووصل صداها إلى الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، تتعلق بمشروع لإقامة محطة لتولد الطاقة الكهربائية في مدينة دير الزور، قبل أن ينقل لاحقاً تحت ضغط الظروف الأمنية إلى منطقة دير علي في ريف دمشق. جرى توفير التمويل اللازم له وبالقطع الأجنبي واستيراد تجهيزاته وتخزينها، لكن من دون استكمال تنفيذه ووضعه في الخدمة.
معظم الانتقادات المثارة والأحاديث التي تتناول المشروع بالنقد تتركز على ثلاث نقاط أساسية هي:
ـ طول فترة الإجراءات التعاقدية التي استمرت من العام 2003 ولغاية العام 2020، وهي فترة طويلة، ومن ثم طبيعة الإجراءات التي جرى اتخاذها بعد إعلان الشركتين المنفذتين للمشروع القوة القاهرة في العام 2012.
ـ التجهيزات المخزنة في موقع المشروع في محطة دير علي وسلامتها الفنية وجدواها الإقتصادية والفنية لاسيما وأن بعضها قد مضى على استيرادها أكثر من 7 سنوات (بتاريخ إجراء التحقيقات قبل حوالي عامين)، والتقديرات تتحدث عن أن قيمة هذه التجهيزات تتجاوز 307.7 مليون يورو.
ـ صرف ما يزيد على 63% من تكلفة المشروع البالغة حوالي 741 مليون يورو ( 671 مليون يورو قيمة العقد الأساسي مضافاً إليه فروقات أسعار قدرها 70 مليون يورو تمت الموافقة عليها في العام 2015). وعدم القدرة على إلغاء الاعتماد المستندي المفتوح لدى أحد المصارف الخارجية.
8.5 مليارات كيلو واط ساعي
بدأت القصة حسب تحقيقات بعثة تفتيشية مشتركة شكلت من الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش والجهاز المركزي للرقابة المالية وعضو من مركز الدراسات والبحوث العلمية، في العام 2002 مع تشكيل وزير الكهرباء للجنة ضمت ممثلين من عدة وزارات بغية اختيار موقع مناسب لإقامة محطة توليد كهرباء ذات دارة مركبة باستطاعة 600 ميغا واط في محافظة دير الزور أو في محافظة الحسكة، حيث انتهت اللجنة إلى اقتراح بإنشاء محطة توليد ذات دارة مركبة باستطاعة 600-750 ميغاواط في محافظة دير الزور (موقع التيم)، وذلك في ضوء الطلب المتزايد، وتوفر الغاز والمياه، وإمكانيات نقل الحمولات عبر نهر الفرات.
بعد عام وأربعة أشهر تقريباً من صدور تقرير اللجنة، بدأت الإجراءات التعاقدية الفعلية للمشروع بطلب عروض، إلا أنه لم يتم إبرام العقد اللازم إلا في الشهر العاشر من العام 2010، وذلك نتيجة فشل طلب العروض لعدة مرات وعدم التزام بعض العارضين بإتمام إجراءات التعاقد. وبالفعل تمت المصادقة على العقد من قبل رئاسة مجلس الوزراء في بداية العام 2011، ليجري تسليم الشركة موقع العمل في دير الزور في الشهر السابع من العام نفسه، ومن ثم الموافقة على منح الاعتماد المستندي لمشروع إنشاء محطة توليد دير الزور بكامل القيمة، والبالغة حوالي 664.207 مليون يورو منها 176.929 مليون يورو من حساب المؤسسة، و 84.1 يورو من البنك الإسلامي للتمويل، فيما امتنع بنك الاستثمار الأوروبي، الصندوق العربي، والصندوق السعودي للتنمية عن تنفيذ التزاماتهم السابقة لجهة المساهمة بتمويل المشروع، ومع ذلك فقد جرى في شهر تشرين الثاني من العام 2011 فتح الاعتماد المستندي باستخدام الاحتياطيات الرسمية لمصرف سورية المركزي، وإبلاغ المتعهد بالاعتماد المستندي الفعال والمعزز بكامل القيمة الذي يعتبر أمراً بالمباشرة.
بعد حوالي سبعة أشهر، وتحديداً في 25 حزيران من العام 2012 أعلن تجمع الشركتين الفائزتين بالعقد، وعبر كتاب موجه إلى المؤسسة العامة لتوليد ونقل الكهرباء، “القوة القاهرة” بسبب الظروف الأمنية غير المستقرة في المنطقة الشرقية وخاصة في محافظة دير الزور، ومع ذلك فقد تم إجراء ثلاثة تعديلات على العقد لمبررات مختلفة رأت البعثة التفتيشية عدم قانونية أحدها.
طبيعة الظروف الأمنية التي تمر بها محافظة دير الزور، جعلت المؤسسة العامة للتوليد أمام ثلاث خيارات هي:
ـ إلغاء المشروع، وهذا له حسب دراسات المؤسسة آثار عدة منها: انعدام النص القانوني الذي يعطي الحق للإدارة بالإلغاء، إعطاء المتعهد أمر المباشرة وتسليمه موقع العمل وتصديق المخططات الرئيسية وتسديد مبلغ 33.5 مليون يورو و23 مليون ليرة، الدخول بدعوى قضائية مع المتعهد وخسارة المؤسسة للمبالغ المسددة والمطالبة بالعطل والضرر حده الأدنى قيمة التجهيزات المصنعة 250 مليون يورو إضافة إلى 20% من قيمة العقد الإضافية عما فات المتعهد من ربح وهي تعادل 165 مليون يورو، الاعتماد المستندي للعقد مفتوح ولا يمكن إلغاؤه، خسارة المراحل السابقة من إعلان ودراسة ومصادقة، وقيمة الطاقة المولدة من المشروع 8.5 مليار كيلو واط ساعي سنوياً.
ـ التريث بتنفيذ المشروع لحين تحسن الأوضاع الأمنية في محافظة دير الزور وموقع العمل فيها.
ـ نقل المشروع وذلك نتيجة عدم إمكانية الوصول أو ضمان سلامة المواقع المقترحة (دير الزور، اليتم، الطريفاوي، عدرا، الزارة)، وعلى ذلك فقد تم دراسة المنعكسات والمتطلبات الفنية والإدارية والمالية لنقل المشروع إلى أحد المناطق الآمنة (جندر، الناصرية، عدرا، دير علي، وتشرين).
ونتيجة عدة دراسات واجتماعات والتفاوض مع تجمع الشركتين، والذي كانت خياراته أن يتم النقل إما إلى موقع جندر أو موقع دير علي، وأن اختيار موقع دير علي ذو أفضلية أكبر، وبعد دراسة المنعكسات الفنية والمالية والعقدية الناجمة عن نقل المشروع من دير الزور إلى موقع دير علي، تم في الشهر السابع من العام 2014 التوقيع على مذكرة تفاهم مع تجمع الشركتين حول آلية تنفيذ المشروع في موقع محطة الدير علي، حيث تمت الموافقة عليها من اللجنة الإقتصادية ورئاسة مجلس الوزراء، وليتم في الشهر التاسع من العام نفسه تسليم موقع العمل الجديد، إلا أن التجمع طالب بفروقات أسعار قدرها حوالي 70 مليون يورو و 48.8 مليون ليرة لتنفيذ مشروع محطة دير الزور في موقع الدير علي، وقد تمت الموافقة على الزيادة بشكل قانوني، وذلك بعد تشكيل لجنة قامت بدراسة مطالبة مطلب التجمع، مبررة أن الزيادة المطلوبة تشكل 60% من أسعار الخدمات، منها 20% جراء تغيير سعر صرف الليرة بالنسبة لليورو و 40% ناجمة عن القوة القاهرة، والتي أدت إلى ارتفاع أسعار أعمال الخدمات الأساسية في العقد. وقد جرى إعلام التجمع بذلك ووضع مذكرة التفاهم الموقعة موضع التنفيذ واستلام موقع العمل الجديد، ونقل التجهيزات الموردة والمتراكمة في مرفأ طرطوس إلى موقع العمل في محطة دير علي، والموافقة على تعويض فروقات الأسعار، ويعتبر التجمع مسقطاُ حقه بالمطالبة مستقبلاً بأية زيادة تطرأ على الأسعار التعاقدية مهما كانت الأسباب وطيلة مدة تنفيذ العقد.
تعثر جديد
مع انتهاء صلاحية الاعتماد المستندي وعدم تمديده من المصرف الخارجي، دخل المشروع مرحلة أخرى من التوقف والتعثر. وقد برر المصرف الخارجي عدم تمديده للاعتماد المستندي تخوفه من إمكانية تعرضه لعقوبات اقتصادية، إلا أنه أبدى استعداده لتأمين آلية نقل آمنة لنقل الاعتماد المستندي إلى مصرف آخر، ومع ارتفاع المخاطر نتيجة العقوبات المفروضة على سورية اقترح المصرف المركزي الموافقة على طلب المصرف الخارجي بنقل الأموال إلى مصرف آخر وعدم تحريك المبالغ إلا بأمر خطي من حاكم مصرف سورية المركزي حصراً، وذلك لأغراض العقد المذكور توسيع محطة دير علي أو لتغطية مختلف احتياجات الجمهورية العربية السورية. وبموجب عدة موافقات صادرة عن رئاسة مجلس الوزراء تم الموافقة لمصرف سورية المركزي باستخدام جزء من المبلغ المتبقي من الاعتماد لشراء احتياجات البلاد، وعلى أن يتم ترميم المبلغ المتبقي من الاعتماد والمستخدم في تأمين الاحتياجات حين توفر الظروف المناسبة.
ومع أن المصرف المركزي أكد لوزارة الكهرباء في الشهر التاسع من العام 2020 أنه في حال التوصل إلى اتفاق مع التجمع لاستئناف إنشاء محطة توليد الكهرباء وفق الصيغة المناسبة سيتم رفع قيمة المؤونة الشهرية إلى ما لا يقل عن 10 ملايين يورو شهرياً، ألا أن الشركة المتعهدة ردت على المقترح بالتأكيد أنه في حال تمديد الاعتماد المستندي وحل كافة المعوقات التي تعترض تنفيذ المشروع فسيتم استئناف الأعمال المدنية وعمليات التوريد علماً أن وزارة الكهرباء كانت قد شكلت قبل شهرين من ذلك لجنة مهمتها تقييم الاقع الحالي للآلات والمحولات والعنفات والتجهيزات الخاصة بالمشروع واقتراح الإجراءات المناسبة للمحافظة عليها وتخزينها بالشكل الأمثل متعا لاهتلاكها أو تعرضها للضرر ريثما يتم وضعها بالخدمة.
الرأي النهائي
البعثة التفتيشية، التي عملت على ملف المشروع، أوردت في تحقيقاتها تفاصيل كثيرة يمكن إيراد بعضها بنقاط سريعة مع المقترح النهائي لرئاسة الهيئة:
ـ بينت الخبرة الفنية أن نسبة إنجاز الأعمال المدنية باليورو هي 19.5% وبالليرة السورية 22.5%، وقد سبق للمؤسسة ولجنة الإشراف على العقد أن دققت على ذلك، حيث بينت المؤسسة بكتابها في شهر تشرين الأول من العام 2019 قيام الشركة المتعهدة بتنفيذ الأعمال المدنية ببطء شديد بشكل غير متوافق مع البرنامج الزمني لوضع المجموعات بالخدمة.
ـ بينت البعثة أن الخبرة الفنية على الأعمال المنفذة من قبل المتعهد اقتصرت على تقييم الأعمال المدنية دون تقييم المواد التجهيزات على اعتبار أنها مخزنة في موقع دير علي ولا تزال على مسؤولية التجمع. وأن عدم استكمال المشروع حال من دون إمكانية قيامها بتقدير مدى صلاحية التجهيزات والأعمال الموردة.
ـ أهمية اتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل متابعة تركيب التجهيزات في أقرب وقت ممكن تفادياً لإمكانية حدوث أضرار لا يمكن تقديرها خاصة أنه مصرف من الاعتماد 426 مليون يورو، منوهة إلى أن إقرار متابعة التركيب واستكمال أعمال المشروع من قبل المتعهد هو أمر تنفيذي غير مرتبط بنتائج التحقيقات التي تجرى لدى الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش وهو عائد للجهات المعنية بالعقد والتعهد المذكور.
ـ على اعتبار أن تقييم أي عقد يتطلب الوقوف على صحة وعدالة أسعار التعاقد التي أقرتها اللجان الفنية المالية لدراسة للعروض المقدمة والتي تم اعتمادها من الإدارة وهي مسألة لم تتمكن الخبرة الفنية من إعطاء الرأي الدقيق والمقنع حولها وأن اعتماد الخبرة في تقييم أسعار العقد على الأسس والإجراءات التي قامت بها اللجان المعتمدة من الإدارة ليس كافياً للوقوف على عدالة الأسعار من عدمها، خاصة أنه جرى المقارنة بين عقدين بالفترة الزمنية نفسها وللمتعهد نفسه أو بين عقد للمتعد نفسه وعقد آخر بينهما خمس سنوات مع اختلاف نوعية التجهيزات وبلد المنشأ أو الصنع. وعليه فقد رأت إدارة الهيئة أنه لا أمكانية للبحث بعدالة أسعار التعاقد في ضوء مبررات الخبرة بعدم إمكانيتها تقدم رؤية خاصة حول عدالة الأسعار بمعزل عن تقييمات وأسس اللجان المشكلة لدى الإدارة وعلى اعتبار القيمة العقدية للعقد المذكور مرتبط بما سيحققه من جدوى اقتصادية بعد استكمال تنفيذه واستلامه واستثماره.
وعليه فقد اقترحت رئاسة الهيئة في مطالعتها الموجهة لرئاسة مجلس الوزراء “استئخار البحث بترتب أضرار مادية ومسؤوليات حيالها من عدمه بخصوص العقد المذكور، ليكون ذلك في ضوء استكمال إنجاز المشروع (مفتاح باليد) واستلامه من قبل متعهد العقد المذكور (تجمع الشركتين) أو على حسابه في حال نكوله، ومدى سلامة إنجاز المشروع والجدوى الاقتصادية منه، وليتم تقييم الاقتراحات والموافقات التي قدمت بصدد ذلك.
أخيراً
إذاً هناك تجهيزات ومعدات قيمتها مئات المليارات من الليرات السورية، وضياع سنوات من الاستفادة من فوائد مشروع استراتيجي كان يمكن أن يشكل في حال تنفيذه مخرجاً مهماً من الأزمة الحالية التي يعانيها قطاع الكهرباء في بلدنا.
وأياً كانت العوامل والجهات المسؤولة عن تأخر تنفيذ المشروع وفوات منفعة كبيرة، إلا من الضروري التوقف عند نقطتين هامتين هما:
ـ ضرورة إصدار قانون خاص بالمشروعات الكبرى والاستراتيجية التي تحتاجها البلاد، إذ من غير المنطقي أن يتم التعامل إجرائياً مع هكذا مشروعات كما يجري التعامل عادة مع مناقصات لتوريد مواد عادية يمكن توريدها في أي وقت. بحيث يراعي التشريع الجديد السرعة والمرونة في اتخاذ القرار ، وما إلى ذلك من متطلبات ضرورية أسوة بما هو معمول به في الدول الأخرى.
ـ في الظروف والأوضاع الأمنية الصعبة كتلك التي مرت بها البلاد لا يمكن توقع تطور مسار الأحداث ونهايتها، وتالياً فإن الخيارات تصبح رهناً بوقتها وظروفها، ولا يمكن مقاربتها إلا من خلال محاولة مراعاة تلك الظروف وضغوطها.