خاص|| أثر برس الاقتصاد في سوريا اليوم هو “اقتصاد الفاجعة”، إن أمكن ان نستعير من لغة وبلاغة موريس بلانشو، وليس فقط اقتصاد الأزمة أو اقتصاد الحرب. لعل التعبير الأقرب هو اقتصاد “مجرد العيش” وما يدعوه أجامبين “الحياة العارية”، أي البحث عن مجرد البقاء في الحياة، بيولوجياً وحيوياً.
يتعلق الأمر بالشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً وعَوَزَاً في الداخل، وفي مخيمات اللجوء والشتات. وأما الشرائح التي لم تتأثر بالكارثة مادياً واقتصادياً، والشرائح التي أَثْرَت منها، وكانت أحد أسبابها، وأحد أسباب استمرارها، فلها حديث آخر. إنما الجميع في أفق الظاهرة السورية: ثمة من يدفع الأثمان، ويفتقر لحد الإخفاق في تأمين متطلبات العيش. وثمة من يحصل على الريوع والمكاسب، ويغتني ويُسرف في كل شيء تقريباً. هذا بكلمة واحدة هو: اقتصاد الفاجعة.
كان الاقتصاد أحد مداخل أو محددات الأزمة. وثمة مقاربات عدة للحدث السوري منذ عام 2011، من باب الاقتصاد والخطط الاقتصادية ومشروعات الإصلاح الاقتصادي. ويمكن اقتراح التركيز على سبعة خطوط أو نقاط رئيسة، قد تساعد في فهم الحدث، من زاوية الاقتصاد والاقتصاد السياسي والاجتماعي والسياسات الحكومية، وليس من زاوية التآمر أو التدخلات الخارجية، إذ ثمة الكثير من المقاربات والخطابات حول ذلك.
الأول:
يركز على أن حدث 2011 وقع في وقت كانت مؤشرات التنمية في سوريا تشهد تصاعداً مهماً. وان الخطط الخمسية كانت بصدد تغيير دور الدولة وديناميات الاقتصاد والتنمية إلى الأفضل، إلى ما سُمي آنذاك “اقتصاد السوق الاجتماعي”. الخطة أو الفكرة الواهمة والثقيلة والتلفيقية والمشوهة التي ما زال كثيرون يدافعون عنها، بصيغتها تلك، على الرغم من أن التطورات كشفتها وأظهرت أبعادها الكارثية وتحيزاتها المعلنة والمضمرة بحق الشرائح الأضعف والأفقر في المجتمع.
ربما كانت الخطابات والخطط الاقتصادية مصاغة جيداً، منهجياً ومعرفياً وحتى بلاغياً، لكن ذلك لا يعني أنها جيدة في الواقع والفعل. والكلام الطيب لا يحيل دوماً إلى مقاصد طيبة. وقد قال العرب قديماً: إن أعذب الشعر أكذبه. وأرجو أني لا أبالغ في ذلك.
وليس في هذا الكلام تصويب على الجانب المعرفي والمنهجي، أو على نيات كثير ممن اشتغل على الخطط، ومنهم أصدقاء وأساتذة مشهود لهم بالكفاءة، إنما على الإخفاق في تأسيس المخطط على معرفة مطابقة -ما أمكن- للواقع، ومعرفة بديناميات الاجتماع السوري الظاهرة السورية في إقليم متأزم ومتفجر على الدوام. ثم أن الأفكار والخطط إياها نجحت –وهذه مسألة خلافية في أي حال- في دفع السياسات العامة للتورط في قضايا على درجة عالية من الحساسية والخطورة.
الثاني:
يركز على وجود اختلالات اقتصادية وتنموية، وحتى بيئية، وخصوصاً بين مدن وأرياف، بين مناطق وأخرى. واختلاف أنماط الاستجابة للوقائع الجديدة، على مستوى الأفراد والجماعات، والمجتمع ككل، وحتى على مستوى المؤسسات العامة والدولة. وذكر المرحوم فؤاد بلاط حادثة ذات دلالة. قال: عندما حدثت فيضانات في مناطق خط الفرات، قررت الحكومة ممثلة بنائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية الذهاب إلى المناطق المتضررة وتوزيع معونات وسلل غذائية. وحدثت خلال ذلك حكاية تُحكى.
قال أحد المتضرريين للمسؤول الحكومي: “لا نريد سللاً غذائية. بل نريد علفاً للماشية. هل تعلم ان هذه النعجة، هي بنظري أهم من هذا الولد؟ إذا مات الولد يمكن لزوجتي أن تنجب ولداً آخر، لكن إذا ماتت النعجة بسبب فقدان العلف، فإننا نموت جميعنا، وإذا تأمن العلف، يتأمن كل شيء”.
ينطوي كلام المتحدث على بداهة اقتصادية وتنموية لم تخطر على بال مسؤولي الخطط الخمسية والتنموية والبرامج الحكومية آنذاك الذين كانوا يفكرون في تقليص الإنفاق وزيادة الإيرادات. والتحول من اقتصاديات الماشية والمزروعات وغيرها إلى اقتصاديات الخدمات والريوع ومنتجات ما بعد الحداثة.
الثالث:
وجود “اختلال” أو “عطب بنيوي” في إدارة السياسات العامة، أو ما يمكن أن ندعوه الاقتصاد السياسي لإعادة الهيكلة وإعادة توزيع وتخصيص الموارد المادية والمعنوية. كان تقليص الإنفاق العام، وتفضيل الاستيراد لسلع من الخارج بدلاً من سلع محلية أعلى تكلفة، شكلاً من أشكال “اللبرلة الاقتصادية”، المفهومة وفق حسابات التجار ورجال المال والأعمال والجباة، وغير المفهومة وفق حسابات رجال الدولة والسياسات العامة التي تنظر للأمور نظرة اقتصاد اجتماعي وسياسي وليس فقط اقتصاد مالي وربحي. وهذا باب فيه كلام كثير.
الرابع:
إعادة التفكير في الأسس الاجتماعية للسياسات العامة وشرعية النظام السياسي والدولة، ولا نعلم إن كان ذلك حدث عفواً أم قصداً.
وكانت الشرعية تعتمد الأرياف والمدن الريفية، والمزارعين والعمال والموظفين…إلخ، الفكرة الجديدة انبنت على عدم وجود دواع اجتماعية أو سوسيولوجية أو طبقية شعبية لبناء الشرعية السياسية، وبالتالي لا حاجة إلى دعم الريف والمدن الريفية والهوامش وأحزمة الفقر في المدن الكبيرة.
وإن عصر العولمة والحداثة الفائقة أو ما بعد الحداثة أخذ يعتمد تشكيلات شبكية قوامها: مؤثرين اجتماعيين من فنانين ورجال مال وأعمال ورجال دين وأعيان…إلخ، وهؤلاء قد لا يحتاجون إلى “ضح الأموال” من الحكومات، ولا يطلبوه اجتماعياً، بل إنهم هم من “يضخون الأموال” في سوق التداول والأعمال والإنتاج الاجتماعي والاقتصادي والرمزي وحتى السياسي. وهكذا لم يعد للحكومة حاجة في جذب الشرائح الاجتماعية الأكبر والأفقر، باعتبار أن جذب الأغنياء والمؤثرين كافٍ! وهذا أيضاً باب يقتضي المزيد من التقصي والتدقيق.
الخامس:
التجاذبات حول هوية الاقتصاد ودور الدولة فيه، والتحول المتزايد والفج إلى الليبرالية في أسوأ طبعاتها وتطبيقاتها. وهذا قد يكون مفيداً في حسابات المالية العامة والموازنات، وحسابات العائد المالي والريعي، ولكنه خطر في حسابات التماسك الاجتماعي والأمن الاجتماعي والاستقرار والثقة بالسياسة العامة والدولة. وثمة مصادر تهديد لم يكن موعى بها على هذا الصعيد. وهو ما كشفت عنه الأزمة منذ العام 2011.
السادس:
وهو الأكثر حساسية وخطورة، وربما الأكثر بعداً عن تقديرات مصادر التهديد للمجتمع والدولة، وهو أن تغير نظرة الدولة للمجتمع سوف يؤدي بشكل طبيعي إلى تغير نظرة المجتمع للدولة وأن انسحاب الدولة من الأدوار والمسؤوليات الاجتماعية والاقتصادية، سوف يكون له تأثير في وجودها وصورتها ومواقف الناس حيالها. وهنا أيضاً مصدر تهديد لم يكن مُوعَى بها بالتمام، حتى لو صدرت تنبيهات وتحذيرات من هنا وهناك.
السابع:
ثمة تَمَفْصُل حَرِج بين الليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية، صحيح أنه ثمة حالات حول العالم نجح فيها “الفصل” بين الاقتصاد والسياسة، وحدثت “إصلاحات اقتصادية” و”تنمية” من دون “إصلاحات سياسية”، لكن ما يصح في مكان قد لا يصح في مكان آخر. وإن انسحاب الدولة من المسؤوليات الاجتماعية التي ألزمت نفسها بها، مقابل أن يمنحها المجتمع تفويضاً واسع الطيف في السياسات الخارجية والأمن والتحالفات وغيرها، سوف يؤدي إلى انسحابات مقابلة وقد تكون غير متناسبة من جهة المجتمع أو شرائح منه. الأمر الذي يفسر -مع عوامل أخرى- كيف أن شرائح اجتماعية واسعة تعاملت خلاف المتوقع منها -من قبل السلطة العامة والدولة- عندما بدأت الأزمة في العام 2011.
وفي الختام، يجب وضع سؤال الاقتصاد السياسي والاجتماعي في قلب القراءات والتقديرات حول الأزمة السورية، ليس من باب تفسير أو تحليل ما حدث في لحظة 2011 فحسب، وإنما تفسير لماذا لم يمكن وضع أو صنع استجابات مناسبة خلال الأزمة وحتى اليوم. وما حدث خلال السنوات الماضية هو “تجاهل” أو “تغافل” عن” الجوانب الاقتصادية والتنموية للأزمة، مقارنة بالحديث عن الجوانب السياسية والتداخلات الإقليمية والدولية التي حدث فيها نوع من “لإغراق” و”السيولة”.
الدكتور عقيل سعيد محفوض