بين الاقتصاد والسياسية، تشهد خطوط الصراعات الدولية تغيراتٍ وتحولات ناتجة عن مساعي قوى لوقف تنامي قوىً أخرى، ليأخذ هذا الصراع مع تقارب القدرات الاقتصادية والعسكرية شكلاً أكثر احتداماً، قد يرخي بظلاله على العديد من ملفات الضغط بين تلك القوى خارج نطاقها الجغرافي.
قبل أيام صرّح رئيس القيادة الاستراتيجية الأمريكية الأميرال، تشارلز ريتشارد، في مقاله لمجلة المعهد البحري العسكري، بأن هناك احتمالاً حقيقياً لأن تتصاعد أزمة إقليمية مع روسيا أو الصين بسرعة إلى صراع نووي، وأن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تضع في اعتبارها أن “استخدام الأسلحة النووية احتمال واقعي”.
هذا التصريح توازى مع توتر علني بين “رؤوس السلطة” في تلك الدول، وظهر ذلك بشكلٍ جلي في خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن الخميس الفائت أمام موظفي وزارة الخارجية في واشنطن، عن الخطوط العريضة للدبلوماسية الأمريكية الجديدة، لا سيما إزاء قضايا الشرق الأوسط وروسيا، وقال “أمريكا عادت.. الدبلوماسية عادت”، لكنه، في المقابل، تعهد بـ “بناء تحالفات دولية جديدة” للتصدي بقوة لروسيا والصين، مضيفاً أنه أبلغ نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، بأن “أيام تراجع الولايات المتحدة أمام التصرفات العدوانية لروسيا وتدخلاتها في انتخاباتنا وهجماتها السيبرانية وتسميمها للمواطنين انتهت”، وتابع: “لن نتردد في رفع الثمن الذي ستدفعه روسيا، وسندافع عن مصالحنا الحيوية وعن شعبنا”.
لماذا الآن وماذا يجري؟
تؤكد مراكز الدراسات الدولية في العديد من تقاريرها خلال العامين الفائتين، بأنه لم يعد أمام الولايات المتحدة الأمريكية وقت طويل، قبل أن تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم، متوقعة أن يحدث ذلك عام 2028، ما يعني سيطرة الصين على الاقتصاد العالمي وكسر الهيمنة العالمية للدولار الأمريكي، الأمر الذي من شأنه أن يلزم الأمريكيين القيام بإجراءات فعلية لتخفيف وطأة ما يجري، لكن السؤال الأبرز هنا، هو، ما علاقة روسيا؟، ولماذا تتوجه الإدارة الأمريكية بحديثها إلى الروس بدلاً من الصينيين؟
يرى الكاتب والمحلل السياسي الروسي “ألكسندر نازاروف” أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع تحمّل صراع مع روسيا والصين في نفس الوقت، لذلك فمن المنطقي أولاً تحييد الخصم الأضعف اقتصادياً وهو روسيا، ويضيف أنه خلال هذين العامين، يجب أن يكون لدى الولايات المتحدة الأمريكية الوقت الكافي لتحييد روسيا، لتتفرغ بعد ذلك لتحييد الصين خلال حوالي 4 سنوات أخرى.
ويبدو أن حديث “نازاروف” قد بوشر تطبيقه بشكل فعلي تجاه موسكو، من خلال استهداف عدة ملفات في دوائر النفوذ الروسية، كالمظاهرات التي اشتعلت في بيلاروس، وخلق بؤر توتر بالقرب من حدود روسيا كحرب كارباغ، وتوتير ملف أوكرانيا، وصولاً إلى التحريض على التظاهر خلال الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها عدة مدن روسية.
في ظل هذا التوتر المرشح للاحتدام، تبرز بؤرة توتر قد تكون بين أكثر ساحات المواجهة تأثراً بالاشتباك السياسي الحاصل، وهي سوريا، المنطقة الوحيدة التي تشهد تماساً عسكرياً إلى هذه الدرجة من القرب بين أكبر وأهم منظومتين عسكريتين في العالم.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن التصريحات الأمريكية تجاه هذا الملف، توحي بتغير ملموس، فبعد أن كانت التركيز الأمريكي مقتصراً في معظم الأحيان خلال السنوات الفائتة على مواجهة التمدد والوجود الإيراني، تعلو اليوم نبرة أمريكية جديدة، حيث اعتبر المتحدث باسم البنتاغون، جون كيربي، أن روسيا “لم تكن طرفاً مساعداً” في الساحة السورية، محذراً الطرف من الروسي من اتخاذ أي “إجراءات استفزازية” قد تؤدي إلى حوادث مع القوات الأمريكية، في حين قال قائد القيادة المركزية للقوات المسلحة الأمريكية، التي تدخل ضمن مسؤوليتها الشرق الأوسط، الجنرال كينيث ماكينزي، في مؤتمر صحفي عقده الاثنين الفائت: “إن روسيا تسعى إلى تقويض النفوذ الأمريكي وتعزيز هويتها كقوة عظمى عالمية… إجراءات روسيا في المنطقة تشمل إيجاد تمركز عسكري دائم في سوريا”.
تنافس أمريكي – روسي في سوريا
ويدرك الأمريكيين كما الروس ضرورة تعزيز انتشارهم العسكري في هذه المرحلة، تحديداً حيث تجري الولايات المتحدة توسيعات لقواعدها العسكرية شرق سوريا، في الوقت الذي يوسع فيه الروس قاعدتهم الرئيسية في حميميم غرب البلاد.
لكن حراكاً روسياً متمايزاً يوحي برغبة موسكو بتمكين تواجدها العسكري والضغط على الأمريكيين من خلال تعزيز وجودها ضمن مناطق النفوذ الأمريكي شمال شرق سوريا، حيث تتواصل التعزيزات الروسية التي كان آخرها قبل أسابيع حيث أقلّت طائرة شحن عسكرية روسية جنوداً روس خضعوا لتدريبات خاصة إلى قاعدة القامشلي وقيل بأن برفقتهم مقاتلين من “حزب الله” اللبناني.
يبدو أن الأيام المقبلة ستشهد تنافساً أكبر بين الدول العظمى في كافة أرجاء العالم لا سيما سوريا، لكن يبدو أيضاً أن الموقف الأمريكي لن يكون الأقوى بين اللاعبين (روسيا إيران تركيا) على الساحة السورية، فالأتراك لا يتماهون حتى اليوم مع المخططات الأمريكية شرق الفرات، كما أن الضغط الأمريكي على موسكو من شأنه أن يدفع الأخيرة إلى تحالفٍ أوثق مع الإيرانيين، فعندما يكتب المرشد الأعلى في إيران رسالة بخط يده لبوتين ويوقعها باسمه تحت عنوان “العلاقات الاستراتيجية” لابد أن نعلم بأن قراراَ قد اتخذ في كل من طهران وموسكو للانتقال إلى مرحلة متقدمة من التقارب ستكون سوريا إحدى أهم محطاتها.
رضا توتنجي