خاص|| أثر برس لم يعد بالإمكان النظر إلى سوريا بوصفها “مجتمعاً” و”دولة”، وفق المعاني المعروفة لـ”المجتمع” و”الدولة”. كشفت التطورات أن: لا المجتمع مجتمع، ولا الدولة دولة، بل أن ما ندعوه “مجتمعاً” هو –على ما يظهر اليوم- أقرب لـتكوينات مِلَل ونِحَل وطوائف وجماعات وقبائل وعشائر، مُتَقَلِّبَة المدارك والقيم والتفاعلات والاصطفافات. وأن ما ندعوه “دولة” هو أقرب لـ”سلطة” بالمعنى السلطاني ما قبل الدولتي الحديث، بل أن ثمة “سلطات أمر واقع” في مناطق مختلفة من البلاد، وكل منها محكوم بعدد من ديناميات القوة والسيطرة! ولا ينف ذلك وجود بنى مجتمعية، مدنية ووطنية، وأيضاً كيانية دولتية، بالمعنى الحداثي للكلمة.
وذلك الكشف والانكشاف أو الإفصاح، لا يعود إلى ما حدث من احتجاج وصراع وحرب منذ العام 2011، بل لعل جانباً مما حدث آنذاك، كان بسبب افتقار البلد لروح ومنطق “مجتمع” و”دولة”. وافتقار كلمتي “سوريا” و”سوريين” لمعنى يحيل إلى وقائع وحقائق عيانية، وليس وقائع افتراضية أو مُدَّعَاة أو مُؤَدْلَجة أو مُتَخَيَّلَة. الأمر الذي أظهر مدى هشاشة الظاهرة السورية، والانزلاق السريع نحو العنف والحرب والقابلية العالية نسبياً للتدخلات الخارجية والارتزاق والتطرف والكراهية.
ويبدو أن مواصلة الحديث عن “سوريا” بوصفها “مجتمعاً ودولةً”، هو من باب “التواضع” على تسميات قد لا تكون مطابقة لـ “المُسَمّى”، على ما في ذلك من تعميم حاد نسبياً! وان مواصلة الحديث هو –إلى ذلك- من باب الحرص أو الأمل على تكون سوريا بلداً “اسماً على مسمى” بالفعل، وفيه قابليات وفواعل فكر وسياسة واجتماع الخ تريد لذلك أن يحدث، وتعمل عليه، بقدر متفاوت من الهمة والإقدام، وقدر قليل نسبياً -حتى الآن- من النجاح!
والآن، ثمة أسباب محتملة لعدم (أو تراجع إمكان) الحديث عن مجتمع ودولة في سوريا، بالمعنى المعروف لـ”مجتمع” و”دولة”:
الأول،
يتمثل في دخول البلاد حالة من الصراع والانقسام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. والحروب متعددة الأنماط والأشكال في سوريا. وحدثت أهوال كثيرة خلال ذلك، اصطف السوريون على جانبي حرب (أو حروب) مهولة طالت كل جوانب الظاهرة السورية، وامتدت منعكساتها إلى الإقليم (والعالم). والصحيح أن الإقليم والعالم كانا حاضرين بفواعلهما وأولوياتهما ورهاناتهما في كل ما يتعلق بسوريا، ربما أكثر من السوريين أنفسهم.
الثاني،
أن المقاربات التي تركز على “مجتمع ودولة”، لم تعد موجودة في العلوم الاجتماعية والسياسية، إلا كـ”مقاربات تركيبية” و”استخلاصات” تتم بشروط بالغة الدقة والحذر، أو بحكم العادة أو بحكم الأمر الواقع والوجود القانوني المعترف به دولياً الخ، يشترك أو يتشابه في ذلك بلدان كثيرة حول العالم، وخاصة خارج أوربا، بل في أوربا نفسها أيضاً. وثمة كلام كثير عن “نهاية المجتمعات” أو تغير فكرة ومعنى وواقع وجود مجتمع، و”نهاية الدولة” أو تغير معنى وفكرة “الدولة”.
الثالث،
حالة الصراع العميق والصدوع الحادة بين “السوريين”، التي طالت منظومات القيم حول معنى “مجتمع” و”دولة” سوريين أو في سوريا. ويتجاوز ذلك الحاضر، بكل الأهوال التي فيه؛ إلى المستقبل، بكل الغموض واللا يقين اللذين يَسِمَاه، إن أمكن الحديث عن مستقبل اليوم.
الرابع،
يتم النظر إلى سوريا بوصفها “حقل” أو “مجال” أو “فضاء” أو “حيز” لفواعل وظواهر اجتماعية وثقافية وقيمية، وبالطبع سياسية وأمنية واقتصادية، وتجاذبات بالغة التركيب والتعقيد، يصعب معها تمييز ما هو “داخلي” وما هو “خارجي”، ما هو “سوري” وما هو “غير سوري”، بل إن التداخل والتخارج أخذ يطغى على الظاهرة السورية بشكل غير مسبوق في تاريخ البلد.
الخامس،
أظهر السوريون انجذاباً أو انخراطاً مهولاً، وأقرب لـ”هستيريا” شبه جماعية، للصراع والاقتتال، وتكريساً للفروق والفجوات والاختلافات فيما بينهم، كما لو أنهم تكوينات متنافرة بالطبيعة، جمعتهم جنباً إلى جنب قوة قاهرة هي قوة السلطة القائمة، وإكراهات التشكل الكياني والدولتي الحديث. لا ينف ذلك وجود بنى وفواعل وتفاعلات وطنية، لكنها على ما يبدو لم تكن حاضرة أو أن حضورها (وربما وجودها!) كان هامشياً ومرتبطاً بالإيديولوجيات التوحيدية والحداثية، وحالة السلطة والدولة.
السادس،
أن الكثير مما يحدث في سوريا يتعلق باعتبارات لا تخصها هي بصورة مباشرة. لعل الرهان الرئيس الحاكم للحدث خلال عدة سنوات كان يتعلق بـ”موضع” و”موقع” سوريا في تجاذبات واصطفافات الإقليم (والعالم) أكثر منه لاعتبارات سُوريّة بالتمام، كما تتكرر الإشارة. يمكن ملاحظة ذلك في حدثين أو لحظتين فاصلتين في مسار البلد: الأولى، لحظة حدث آذار/مارس 2011 والحرب التي تلته. والثانية، هي لحظة كانون الأول/ديسمبر 2024 وسقوط بشار الأسد والتطورات التي تلته، وخاصة المرحلة الانتقالية أو المؤقتة.
ويغرق البلد في حالة من “النزعة الذئبية” في أنماط القيم والتفاعلات على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والقيمي والأمني/ العسكري. وهي “نزعة” كانت في جانب كبير منها محكومة بديناميات الاستقطاب والصراع بين سلطة ومعارضة، ولكنها انفلتت –في بعض الأحيان- من عقالها وباتت انتقامية متنقلة، على أسس طائفية أو عرقية أو مناطقية أو ارتزاقية الخ، وهذا يمثل مصدر تهديد متزايد في مرحلة حرجة في أوضاع البلاد، وسبق وصفها بأنها أقرب لمرحلة “جنينية” أو “جذعية”. ويزيد في ذلك، التحريض المهول في وسائط الميديا والتواصل الاجتماعي، الذي يعزز الكثير من الاختراقات والاعتداءات والتجاوزات على الأرض، وما يحدث في الواقع كبير وبالغ الخطورة، أساساً.
وهكذا، حدثت ممارسات كثيرة مثل الاعتداءات على أسس طائفية وعرقية. وتداخل ذلك مع دوافع تعصبية وثأرية وانتقامية على خلفية الأحداث منذ العام 2011. ومدارك مخيالية حول ما يمثل فرصة وما يمثل تهديداً. لكن ذلك على خطورته ومأساويته، يبدو –حتى الآن- أقل بكثير مما يوحي به أو يتضمنه أو يدعو إليه خطاب الناس على وسائط التواصل الاجتماعي، أو ما تضمره بعض التوجهات الإيديولوجية والقيم التعصبية القارة لدى “السوريين”.
وفي الختام، أفصح السوريون (أو شرائح منهم) عن نظم قيم وقناعات وتوجهات “مِلَل ونِحَل” و”علاقات ذئبية” و”زبانة” و”نفاق” و”ارتزاق” أكبر وأعمق بكثير مما كان متوقعاً. وأفصحوا عن تعصب متعدد الأنماط، وافتقار لفواعل وشبكات وأنماط قيم عابرة للجماعة والملة والطائفة والقبيلة الخ وفي أفق وطن ومجتمع ودولة. وأن الحداثة ما كانت في كثير من الأحيان أكثر من “قشرة” هتكتها أو كشفت عنها التطورات. الأمر الذي يكشف عن قابلية مفتوحة للعنف والموت.
الدكتور عقيل سعيد محفوض