خاص|| أثر برس ليس ثمة ما هو أصعب من السياسات والدول وهي في حالة “التخلي”، مندفعة للانسحاب من الالتزامات والواجبات، حتى الأساسي منها، حيال المجتمع، من جهة. والبحث عن زيادة الريوع الاقتصادية والعائدات المالية عن طريق تقليص الإنفاق، وزيادة أسعار الخدمات، وزيادة الضرائب والرسوم…إلخ من جهة ثانية، ومواصلة “القول” إنها لا تزال سياسات دعم اجتماعي وتنمية اجتماعية واقتصادية، من جهة ثالثة.
وليس ثمة أضعف من المجتمع، عندما يكون الناس في حالة تخلٍّ: تخل عن العناوين والمقولات الكبرى أو التي كانت تُعَدُّ كذلك، مثل: الوطن والهوية والوطنية، والقومية، والصراع الإقليمي ومناهضة الهيمنة العالمية…إلخ من جهة. وانكفاء الناس أو التكوينات الاجتماعية إلى “انتماءاتهم الأولية” و”خنادقهم الهووية”: القبلية والدينية واللغوية والمناطقية…إلخ من جهة ثانية. وانهمام شريحة من الناس قد تصل إلى 90 في المئة من السكان أو تزيد، في تحصيل أو تحقيق الحد الأدنى من شروط الحياة أو ما يعرف بـ”الحياة العارية”، بتعبير أغامبين، من جهة ثالثة.
ما يحدث في البلاد هو التوجه إلى “سياسات التخلي” أو “اقتصاديات التخلي”، بكل المعاني الممكنة، وهي ليست مجرد سياسات أو استجابة لإكراهات اقتصادية أو مالية أو إدارية، بل “اقتصاد سياسي”، إن لم يكن كامل الأوصاف، فهو كامل الآثار والتداعيات، إن أمكن التعبير، سواء تعلق الأمر بـ :
- تقليص الالتزامات والواجبات حيال المجتمع، وخاصة الشرائح الأكثر فقراً، وهي الشرائح التي تمثل عماد الكتلة المؤيدة والداعمة ومصدر شرعية رئيس للنظام السياسي والدولة خلال عقود عدة.
- تزايد الضغوط والإكراهات على شروط العمل والإنتاج، من الصعوبات في أسعار الصرف والجوانب المالية والنقدية، وصعوبات في سلاسل التوريد. ومخاوف من تحولات العرض والطلب، فضلاً عن “اللايقين” الذي يحكم المشهد، وخاصة من منظور فواعل المال والأعمال التي اعتادت العمل من دون ديناميات ضبط ورقابة جدية، بل اعتادت العمل في ديناميات تملُّص وزبانة وفساد عميق.
- تراجع ضوابط إعادة توزيع الموارد المادية والمعنوية، ذلك أن “تصعيد” الكوادر شهد تسارعاً أكبر نسبياً، مقارنة بما كان في السنوات الماضية، لكنه بدا أقل كفاءة، لجهة الخبرة وقدرة الكوادر الصاعدة، سواء في المواقع السياسية أم الإدارية في مختلف مستويات العمل الحكومي وبيروقراطية الدولة.
- التراجع الكبير في الرأسمال البشري والرمزي، إذ تسببت الهجرة تراجعاً متزايداً في نسبة وسوية الكوادر المهنية والعملية والطبية وغيرها، بالإضافة إلى تراجع الوزن النسبي للرأسمال الرمزي في صورة البلاد وتفاعلاتها مع العالم.
- ضعف أو تراجع القدرات الإدارية والسياساتية، ويبدو أنه ثمة مسار متعاكس بهذا الخصوص، إذ إن الحديث المتواصل عن تحسين الإدارة الحكومية، على مستوياتها، رافقه انخفاض متزايد أيضاً في سوية الأداء في الواقع. وزاد في ذلك صعوبة تعويض الفاقد، وصعوبة اتباع سياسات جاذبة للكوادر.
- الانخفاض الحاد نسبياً في التوقعات تجاه السياسة العامة، ولم يعد لدى الناس انتظارات كبيرة حيال السياسات، والواقع أن الثقة غائبة تقريباً أو هي في حالة انخفاض كبير جداً. وهذه حصيلة عوامل عدة، منها ما كان قبل الحرب، ومنها ما كان خلالها. ويبدو أن تراجع انتقاد السياسات من قبل الناس، هو نتيجة ذلك الانخفاض في التوقعات، ولم يعد لدى كثيرين أمل بحدوث تغيير.
إن الحديث عن التخلي هو حديث عن: كيف تنظر الدولة إلى نفسها، قبل أن تنظر إلى المجتمع، وعن البارادايم (الإطار الإرشادي) الذي يوجه صنع السياسات فيها؟ ويبدو أن منطق (أو لا منطق) التخلي أو تقليص الالتزامات الاقتصادية (وهي ضعيفة ومتضائلة)، هو الأكثر حضوراً من حيث الوزن النسبي والتأثير في رسم ملامح وحدود وأطر السياسات، في لحظة بالغة الحساسية والحَرَج في البلاد.
الملاحظ أن خطاب التخلي، وهو التسمية الصحيحة لما يحدث، وليس خطاب الإصلاح الاقتصادي والإداري والمالي وعقلنة وترشيد الدعم الحكومي، هذه عناوين تغطية أو ادعاءات بلاغية، حتى لا نقول تحايل أو تعمية عن الأغراض العميقة لما يحدث. الصحيح أن الحكومة تتبنى سياسات تخلٍّ اجتماعية واقتصادية وقيمية حيال المجتمع، والذي أخذت تنظر إليه نظرة “المُتَطَلِّب” و”ليس المُنْتِج”، وتلومه على ما هو فيه، بدلاً من أن تلوم نفسها على إخفاقها في تغيير الأحوال.
كل المعطيات والدفوع والتحليلات من قبل المسؤولين والباحثين والمحللين السائرين في خطهم، التي تقال عن العبء المالي والاقتصادي لسياسات الدعم الاجتماعي صحيحة، من الجانب الفني والتقني، لكنها غير صحيحة من الجانب السياسي أو بالأحرى الاقتصاد السياسي، ومسؤولية الحكومات والدول تجاه المجتمع في حالات الصراع والحرب.
ما يحدث في الواقع، وما يصدر عن “الأجهزة” الإيديولوجية والإعلامية للدولة، هو خلاف المطلوب، ونحن هنا لا ننطلق من “أدلجة”، بل من التجارب المدروسة والمعروفة في العلوم الاجتماعية والسياسية والتاريخية، ذلك أن مجتمعات الحرب والصراع:
- تتطلب “توسيع” نطاق توزيع الموارد المادية والمعنوية، وليس “تقليصها” أو “سحبها” أو “تركيزها” في مناطق أو شرائح معينة. أي أن المطلوب هو “البسط” في الإنفاق العام وليس “القبض”. والمهم هو تحسين الكفاءة ومعايير المتابعة الضبط في الإنفاق العام. ومثل ذلك بالنسبة لتوزيع الموارد الرمزية والمواقع القيادية، والمشاركة في صنع السياسات.
- “حضور” الدولة وليس “انسحابها”، وخاصة في الجبهات الأكثر أولوية والتي لا يفضل رأسمال الخاص الدخول فيها. ومن المهم “حضور” الدولة في القطاعات الأكثر حيوية بالنسبة للمجتمع والدولة: التعليم، والصحة، والموارد الطبيعية، ومصادر الطاقة وغيرها.
- المزيد من الإنفاق وليس ضغط الإنفاق، وخاصة في قطاعات: البنى التحتية، والطاقة، والتعليم، والصحة، والأمن الاجتماعي.
- توسيع الخيارات المتاحة وليس تقليصها، وإن ضغط أو تقليص الإنفاق العام، وبالطبع زيادة الرسوم والضرائب، يؤثر سلباً في خيارات الناس، إذ إن تقلص البدائل يؤثر سلباً في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
- جذب الناس، وخاصة الرأسمال البشري، وليس دفعهم للهجرة. وما يحدث خلال عقود عدة، ولكن خاصة منذ بداية الحرب، هو أن إكراهات الحرب زادت في الهجرة، وزاد في ذلك التبعات الثقيلة للحرب، وخاصة الحصار والخنق الاقتصادي للبلاد.
المجتمع أيضاً يتحمل أعباء كبيرة، وينوء تحت أثقال رهانات وسياسات عالية الحساسية والخطورة، وأقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تصدر عن فواعل ليست على مستوى التحديات. وتقابل الحكومةُ المجتمعَ في كل لحظة “بالمَنّ”، وكأنها تعطيه من جيوب فواعلها، لا من موارد البلاد والعباد! وتحاسب الناس إذا طالبوا، تقول لهم: “ألا تعلمون أن الحرب الكونية دمرت وأثرت، وأن تكلفة رغيف الخبز وليتر المازوت وكيلو السكر والزيت هي كذا، يا قليلي الوجدان؟”. ولسان حال الفرد يقول: “إلى أن تحامَلَتْنِي العشيرةُ كُلُّهَا. وأُفْرِدتُ إفرادَ البعير المعبد!”.
عندما تلتقي عوامل “التخلِّي”: “تخلِّي” الدولة عن المجتمع (بفعل إكراهات الحرب وهي إكراهات قاسية وخانقة وظالمة، لا شك). و”تخلِّي” المجتمع عن الدولة (بفعل إكراهات موضوعية وتاريخية، ومنها ما هو بفعل الحرب نفسها)؛ في لحظة “توافق موضوعي” أو “تواطؤ تاريخي”، بالمعنى المعروف في العلوم الاجتماعية والتاريخية، يدخل المجالُ في لحظات كالحة أو قاتمة، ومن المرجح أن يُفضي ذلك إلى الكارثة أو الفاجعة. وهذا ليس مُتَوقَّعاً أو مُقْبِلاً فحسب، بل هو أمر واقع وحالٌّ ومُتغلغل عميقاً في اجتماع واقتصاد وقيم البلاد، بكل الأبعاد الواقعية والدلالية للكلمة (الكارثة أو الفاجعة). وثمة الكثير من المؤشرات والقناعات بأننا وصلنا إلى ما وصلنا إليه، بِهِمَّة غير مسبوقة، من قبل أبناء البلد قبل خصومه، وأن الفاجعة من صنع أيدينا نحن!
الدكتور عقيل سعيد محفوض