زياد غصن || أثر برس لم يعد خافياً على أحد، أن البلاد تشهد منذ أسابيع عدة نقاشات متفاوتة المستوى حول ملفات اقتصادية تفرض نفسها حتى على أحاديث المواطنين العاديين، والمهم في الأمر أن هذه النقاشات تجري بمعزل عن أي موقف، وبالتالي ليس هناك موقف مسبق حيال أي من العناوين، ويراد الترويج له.
وما دامت معظم النقاشات تتركز على الملف الاقتصادي، فإن كليات الاقتصاد في الجامعات السورية يفترض أن يكون لها الحضور الأهم باعتبارها تمثل “حاضنة” للأفكار الاقتصادية، سواء تلك التي تحلل وتشرح الواقع أو تلك التي تقدم مقترحات الحلول والخلاص، ومن هنا جاءت فكرة استطلاع رأي أعضاء الهيئة التدريسية في كليات الاقتصاد في جامعات دمشق، حلب، وتشرين للوقوف على وجهة نظرهم من الملفات والعناوين المطروحة للنقاش ولغايات علمية بحتة، وقد أثمرت هذه الخطوة، وبفضل تعاون وزير التعليم العالي وعمداء كليات الاقتصاد في الجامعات المذكورة، عن استطلاع رأي حوالي 72 مدرس وأستاذ مساعد وأستاذ جامعي وخمسة طلاب دراسات عليا، وسوف يتم نشر أبرز النتائج بالتعاون مع موقع “أثر برس” على حلقتين.
الأسباب الداخلية:
في إجابتهم على السؤال الأول المتعلق بتقييم للوضع الاقتصادي السائد في البلاد حالياً، اعتبر 41.5% من المستطلع آرائهم في كليات الاقتصاد المذكورة أن الوضع سيء جداً، و38.9% وصفوه بالسيئ، فيما قال 11.6% إنه مقبول، لكن اللافت في الإجابات أن هناك 2.5% وصفوا الوضع بالجيد مقابل 1.2% لم يجيبوا على هذا السؤال.
النسب ليست مفاجئة، لاسيما وأن هناك اعتراف رسمي صريح بصعوبة الوضع الاقتصادي، إنما عندما تصف النسبة الأكبر من أساتذة كليات الاقتصاد الوضع بالسيئ جداً فهذا يعني أن البلاد مجبرة على اتخاذ قرار بالتغيير على ثلاثة مستويات رئيسية: عقلية التفكير في مقاربة صناعة القرار الاقتصادي، السياسات المتبعة في إدارة الشأن الاقتصادي، وتلقائياً الشخصيات الفاعلة.
وتتضح أهمية هذا التغيير مع الإجابات التي خلص إليها الاستبيان من السؤال الثاني، والذي حاول تحديد نسبة مساهمة العوامل الداخلية في الوضع الاقتصادي الحالي، فكان رأي النسبة الأكبر 45.4% أن نسبة مساهمة تلك العوامل تتراوح بين 50-75%، أما النسبة الثانية والتي بلغت حوالي 33.7% فهي تعتقد أن مساهمة العوامل الداخلية تتراوح بين 25-50%، وثالثاً جاءت شريحة نسبتها 11.6% وترى أن تلك المساهمة تتراوح ما بين 10-25%، لكن هناك من قال إن العوامل الداخلية أثرت بين 75-100% على الوضع الاقتصادي الحالي، وهؤلاء كانت نسبتهم حوالي 5.1%، في حين أن 1.2% لم يجيبوا على هذا السؤال.
وحاولنا عبر السؤال الثالث الوقوف على الأسباب الحقيقية لتدهور الوضع الاقتصادي خلال السنوات الماضية ونسبة مساهمة كل منها مع ترتيبها، وخلصت النتائج إلى أن السبب الأول يكمن في تدمير القاعدة الإنتاجية بفعل الحرب التي تعرضت لها البلاد، ونسبة من وضع هذا السبب في المرتبة الأولى كانت حوالي 41.5% من المبحوثين، في حين أن 22% اعتبروا أن السبب الأول يكمن في شيوع أشكال جديدة من الفساد، وبنسبة أقل 15.5% حملوا العقوبات الغربية وتداعياتها المختلفة المسؤولية الأولى، مقابل 11.6% كانت قناعتهم أن السياسات والإجراءات الاقتصادية الحكومية هي المسبب الأول لما حصل من تدهور اقتصادي، وفقط هناك 6.4% ردوا الأمر إلى تأثيرات الحروب والنزاعات الدولية.
إذاً.. هل التوجه إلى معالجة الأسباب الداخلية تلك سيكون كفيلاً بتحسن الأوضاع الاقتصادية؟
مثل هذا السؤال قد تبدو إجابته محسومة، خاصة وأننا استخدمنا كلمة تحسين وليس تجاوز أو إنهاء، لكن يبقى من المهم الوقوف على نسبة المؤيدين لذلك، تخلص النتائج المستخلصة من الاستبيان إلى أن 59.1% من المبحوثين يؤيدون فرضية أن معالجة الأسباب الداخلية من شأنه تحسين الأوضاع الاقتصادية، لا بل إن 18.1% وافقوا بشدة على ذلك، وأشارت النتائج أيضاً إلى أن 11.6% اختاروا الموقف الوسط، في حين أن نسبة من لم يوافقوا على ذلك لم تتجاوز 1.2% ومن لم يوافقوا بشدة 2.5%، إضافة إلى أن حوالي 6.4% لم يجيبوا على هذا السؤال.
يلاحظ أنه رغم اختلاف ترتيب مسؤولية الأسباب المذكورة عن التدهور الاقتصادي، إلا أن الجميع متفق على أن تلك الأسباب هي التي تتحمل المسؤولية مجتمعة، وتالياً فإن البدء بمعالجة الأسباب الداخلية يجب أن يشمل كل ما سبق، وإن كان المبحوثين لديهم أولويات، فالخطوة الأولى يجب أن تبدأ بنظر 36.3% من توسيع دائرة مكافحة الفساد والمحاسبة، لكن هناك من قال بأولوية اعتماد سياسات اقتصادية جديدة تهدف فعلاً إلى زيادة الإنتاج، وهؤلاء شكلت نسبتهم حوالي 28.5% من المبحوثين، بينما أولوية 11.6% هي لضبط سعر الصرف، أما 7.7% فقد اعتبروا أن الخطوة الأولى تتمثل في ضرورة إعادة النظر بدور الدولة في جميع المجالات بما فيها الدعم، و 5.1% طالبوا بالتشدد في اختيار شاغلي المناصب الحكومية معتبرين ذلك أولوية تسهم في تحقيق ما سبق.
ومن الأولويات الأخرى في معالجة الأسباب الداخلية للوضع الاقتصادي اتخاذ قرارات جريئة حيال إصلاح القطاع العام، ونسبة مؤيدي هذا الطرح كأولوية تتقدم على ما سواها بلغت حوالي 3.8%، وكذلك ضرورة العمل على وقف الإجراءات الداخلية التي تنشر الخوف والقلق في قطاع الأعمال ونسبة من اختاروا ذلك 2.5%.
الدور “الأبوي”:
بغض النظر عن رأي البعض بالمصطلح ودقته العلمية وما شهدته السنوات الثلاث الماضية من تغيرات مناقضة له، إلا أن الحديث الطاغي اليوم يتعلق بمدى صلاحية استمرار الدولة القيام بدور يجعلها معنية بالتدخل المباشر في جميع القطاعات والمجالات، وبالصورة نفسها التي رافقت نشأة ذلك الدور قبل ستة عقود من الزمن، والمثير للاهتمام في نتائج استطلاعنا هذا أن 46.7% لا يزالون يعتقدون أن الدور “الأبوي” للدولة لا يزال صالحاً، في حين أن النسبة الأكبر، والبالغة حوالي 50.6% هم على قناعة أن هذا الدور لم يعد صالحاً، وبرأي 58.4% من مؤيدي فرضية انتفاء صلاحية الدور “الأبوي” فإن الدولة مطالبة في المقام الأول، وعوضاً عن الدور التقليدي، بوضع تشريعات وقوانين تضمن حرية العمل والاستثمار، تقديم الدعم المباشر للقطاعات الإنتاجية ونسبة مؤيدو هذا الطرح 24.6% ، فيما صوت 5.1% لخيار حصر حضور الدولة في بعض الميادين الاستراتيجية (القمح- الطاقة- النفط..) مقابل 3.8% لا يزالون متمسكين بالإبقاء على حضور الدولة الاستثماري في كل القطاعات الاقتصادية.
واللافت في إجابات البعض ممن لا يعتقدون بصلاحية الدور “الأبوي” أنهم يؤيدون الإبقاء على سياسة الدعم الاجتماعي بشكلها الحالي، وهؤلاء بلغت نسبتهم حوالي 2.5%، وهي نسبة مساوية لمن قال إن المطلوب من الدولة كأولوية اليوم يتمثل في العمل على تأسيس منظومة للحماية الاجتماعية، وفقط 1.2% أيدوا خيار تقديم الدعم والتسهيلات اللازمة لتصدير المنتجات السورية.
ماذا يمكن أن نستنتج من هذه النسب؟
– أن هناك شريحة ليست قليلة من أعضاء الهيئة التدريسية لكليات الاقتصاد في الجامعات الثلاث لاتزال على قناعة بصلاحية الدور الأبوي للدولة، وهذا سببه إما الخوف من تداعيات تغيير أو تعديل ذلك الدور في ضوء التجارب الحكومية الفاشلة والظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد، أو لأن أفراد هذه الشريحة يؤيدون استمرار الدولة بدورها المعتاد لكن بآليات جديدة، أو لأن بعض المبحوثين ليسوا راغبين بمعارضة ما يمكن تسميته بالمزاج الشعبي.
– النسبة الأكبر تؤكد استحالة استمرار الدولة القيام بالدور نفسه، فعوضاً عن تدخل الدولة عبر الشكل المعتاد والمتمثل في امتلاكها لمؤسسات ولشركات لتقديم خدمة وإنتاج سلعة، ويتبين لاحقاً أنها بتكلفة مرتفعة وخاسرة ومصدراً للهدر والفساد، فإن الأفضل والأوفر أن تحصر الدولة تدخلها بالتنظيم والإشراف وتوفير ظروف المنافسة والعمل العادلة واللائقة.
– الحاجة إلى مزيد من النقاش العلمي والمجتمعي حول الواقع الاقتصادي وآفاقه المستقبلية والسيناريوهات التي تنتظره، وملف الدعم الحكومي والأشكال المفترض أن يتوجه إليها تحقيقاً للأهداف والغايات المحددة له.