عقيل محفوض|| أثر برس أثارت حرب غزة كثيراً من الأسئلة عن موقف سوريا منها، وهل أن الخلاف بين دمشق وحماس في السنوات الأولى من الحرب في سوريا سوف يؤثر بكيفية ما في الموقف من الحرب؟ وكيف عبّر الخطاب الإعلامي في سوريا عن الحرب؟
سوف تتناول هذه القراءة الإطار العام لموقف سوريا من الحرب، كما عبّر عنه الرئيس بشار الأسد في اجتماع اللجنة المركزية لحزب البعث (18 كانون الأول/ديسمبر 2023)، في خطاب سياسي مهم وعميق، كثّف الأسس العميقة لقراءة الحدث من منظور الرئيس الأسد. وأما الأسئلة عن الحرب وهل دفعت الطرفين إلى تجاوز ما كان بينهما من قطيعة وأعادت العلاقات بينهما؟ وأي آثار أو تداعيات قائمة أو محتملة للحرب على الأوضاع في سوريا؟ فله قراءة أخرى.
اتّسم الخطاب السياسي والإعلامي في سوريا بالانهمام الشديد في الحرب، وظهر فيه: احتفاء بالمقاومة ضد الاحتلال. وتنديد بالعدو والدول الداعمة له. ورفض للتطبيع. وإحباط من الاستجابات العربية والدولية حيال كيان الاحتلال. وأمل وثقة في أن المقاومة هي “من” أو “ما” سوف يغير الواقع. والأهم هو أن ما حدث في غزة يؤكد ثوابت التجربة السورية وقراءتها للصراع مع كيان الاحتلال وللسياسة الدولية، ويمثل “دروساً مستفادة” أيضاً.
ميزان المقاومة-الاستسلام!
أظهرت حرب غزة ميزاناً دقيقاً بين المقاومة والاستسلام، وإلى أي حد يمكن للفلسطينيين أن يتحملوا الحرب، وما العتبة الحدية للاستسلام؟ الواقع أن إرادة المقاومة في مواجهة الاحتلال والإيمان بأن الفلسطينيين على حق لا يزال الصوت الأقوى على الرغم من كل التدمير وفقدان الظهير، إن أمكن التعبير.
يقول الرئيس بشار الأسد: “نحن لم نتحدث في يوم من الأيام عن المقاومة إلا كمبدأ، فإذاً هي [حرب غزة] أثبتت صحة مبدأ أن ثمن المقاومة هو أقل من ثمن الاستسلام، … وإذا كان الثمن سيُدفع بكل الأحوال، لماذا لا يدفع بكرامة؟”. (الرئيس الأسد، 18 كانون الأول 2023. والعبارات التي ترد لاحقاً ضمن تنصيص هي من كلماته).
فعل إعجازي!
تذهب الأمور إلى عَدِّ ما يفعله الفلسطينيون “فعلاً إعجازياً” باعتبار الظروف اليوم. وأثبتت حرب فلسطين “أن التكنولوجيا أهم من السلاح وأن العقيدة أصلب من قسوة الإرهاب والإجرام، وأن الهجوم أفضل وسيلة للدفاع، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأن الانبطاح أمام الأعداء هو ليس خياراً وإنما انتحار”. يضيف الأسد: إن هذه دروس عظيمة تعلمناها من الحروب السابقة، ولكنها “تُوِّجَت في غزة. ولكن لو لم تسبقها تجارب مختلفة وإنجازات سابقة أسست لانتصارات المقاومة الأخيرة، لما كان من الممكن لنا أن نستفيد من هذه الدروس”.
صورة كيان الاحتلال
حطمت المقاومة في غزة فكرة وصورة كيان الاحتلال عن نفسه وفكرة وصورة العالم عنه. وأن ردة الفعل الوحشية من قبل الكيان مثّلت صدمة للرأي العام في العالم. وهذا أمر قد لا يكون مسبوقاً في تاريخ الصراع. والمهم في الحرب أن الصهيونية بدأت تفقد سيطرتها على “سردية الصراع”، والتي سبق أن استمرت عقوداً عدة. إذ “خسرت الصهيونية روايتها حتى في أهم معاقلها منها الولايات المتحدة. هذا لا يعني أن الشارع الأمريكي أصبح داعماً لفلسطين، ولكن أصبح لديه الكثير من الشكوك حول الروايات الصهيونية، وهذا يتقاطع بشكل كبير مع ما عشناه في سوريا في بداية الحرب”.
في سؤال من ربح الحرب؟
ثمة نقاش أو سجال عن من ربح الحرب، وهل يصح المقارنة أو المقاربة من منظور “جيش مقابل حركة مقاومة”، أقوى جيش في المنطقة تقنياً مقابل مئات عدة من المقاتلين؟ وأي ميزان للمقارنة بين خسائر كيان الاحتلال وخسائر الفلسطينيين في غزة وفلسطين؟ وهل النتائج أو حصيلة المقاومة متناسبة مع الخسائر أو التدمير المهول لقطاع غزة؟
ثمة مقاربات عدة لأطراف الحرب حول الربح والخسارة، وثمة ما يتضح بمرور الوقت، لكن الأصل في كل ذلك، هو أن المقاومين –وهذا ما تتكرر الإشارة إليه_ هَشَّمُوا ليس صورة وأسطورة الكيان الإسرائيلي، بل صورة وأسطورة كيان الاحتلال نفسه. هذا أمر لا يمكن تقديره بحسابات عن أعداد الضحايا وحجم التدمير في المدن وغيرها. وفي مثل هذه الظروف، تكون “الأسئلة الباردة” أقرب لـ”القراءة السالبة” أو “المنظور السالب” للحدث، ولا تتناسب مع “مقاومة وجودية”، إن أمكن التعبير.
السيطرة على الحقيقة
ثمة تقاطعات بين حروب غزة وفلسطين وسوريا وأوكرانيا وبحر الصين الجنوبي وفنزويلا…إلخ, وهي “السيطرة على الحقيقة”. إذ إن أمريكا تريد السيطرة ليس على الأرض والمجال فحسب، وإنما على الحقيقة أيضاً، وربما قبلاً، وعادة ما تمثل الثانية شرطاً للأولى. يقول الأسد: إن الحرب اليوم هي “حرب الحقيقة، ومن يربح الحقيقة.. طبعاً الحقيقة بغض النظر إن كانت حقيقية أو مزورة، هو من يربح الحرب والمعركة”. ولا شك أن مجتمعات ودول المنطقة بحاجة إلى فعل الكثير بهذا الصدد.
الوعي الوطني
إن المعركة الحقيقة هي معركة المجتمع. ولا معنى لأي فكرة أو عنوان أو سردية، إذا لم يتلقاها الناس ويتفاعلون معها بوصفها فكرتهم وعنوانهم وسرديتهم. لا معنى لوطن أو دولة، ما لم يندفع الناس للدفاع عنه. إذاً فإن القوة الحقيقية هي قوة الوعي والانتماء. هذا ما يحدث في غزة وفلسطين. وهو ما حدث في سوريا. وقد “كان لدينا مبدأ في بداية الحرب بأن قوتنا هي في وعي الجمهور وليس قوتنا في القوات المسلحة وفي الخطاب السياسي وكل هذه الأمور الهامة، ولكن عندما نقول الحاضنة الشعبية فهي حاضنة الوعي”.
حرب السرديات
عودة إلى حرب الإعلام والصورة والحقيقة أو حرب السرديات، ويبدو أننا نكرر هنا، إذ خسر كيان الاحتلال روايته في فضاءات كانت تعد معاقل له، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وغيرها. “وأكثر ما يُرعب “إسرائيل” اليوم، أن يعرف العالم حقيقتها الإرهابية، لذلك المعركة هي معركة الحقيقة اليوم”.
وتمكن الفلسطينيون من “التفوق في نشر الحقيقة ونشر المعلومة”، على الرغم من ظروف الحرب والتدمير للكهرباء والاتصالات والإنترنت وغيرها. نفّذ الفلسطينيون عملاً إعلامياً “كان مذهلاً لنا جميعاً”. وتمكنوا في أيام قليلة من تحطيم ما فعلته أفلام هوليوود على مدى قرن وأكثر، من التوجه إلى العالم برواية واحدة. حدث ذلك “حتى في الساحة الأهم وهي الولايات المتحدة الأمريكية”.
رسائل الغرب
كشف حدث غزة، وخاصة في اندفاع أمريكا والغرب لحشد القوى والأساطيل وتدفقات الدعم متعدد الأشكال لكيان الاحتلال، أن الكيان هي “الابن الشرعي للاستعمار”، وأن “إسرائيل” كيان ضعيف، وهو قائم ومستمر -حتى الآن- بغيره لا بنفسه وقدراته. والأهم هو شعور الغرب أن “إسرائيل كانت تنهار”. و”الرسالة الحقيقية [من قبل الغرب] كانت للمجتمع الإسرائيلي المنهار، … مقابل مجتمع مُحاصر ومُحارب دولياً ومُقتل إسرائيلياً”، لكنه على درجة عالية من التماسك والصمود.
البعد الأخلاقي
أظهر حدث غزة فارقاً أخلاقياً كبيراً بين المقاومة والاحتلال، في الممارسات الميدانية والأخلاقيات التي تحكم فعل كل طرف. إذ أظهر الفلسطينيون مستوى احترافياً وأخلاقياً رفيعاً، وتعاملوا مع الأسرى معاملة حسنة، وهذا ما ظهر للعالم، فإن الاحتلال تعامل بوحشية فائقة، وهذا ما ظهر للعالم أيضاً.
تمكنت المقاومة من تعزيز البعد الأخلاقي في مقاربة الحدث. لاحظ المتابعون حول العالم صورتين متخلفتين حد التناقض، بين قوة احتلال متوحشة، وقوة مقاومة تتعامل معاملة إنسانية وحضارية مع أسرى الحرب. وهذا ما حاول كيان الاحتلال وحلفاؤه التعمية عليه، باختلاق الأكاذيب، ولكنه أخفق في ذلك. هذا جانب من مواجهة أو معركة حضارية. وأمام المقاومة الكثير لتفعله في هذا المجال.
الدفاع عن سوريا والعرب
المقاومة هي الدفاع عن الوطن، سواء في سوريا أم في فلسطين أم في لبنان أم في غيرها، وسواء أكان المقاومون من حركة فتح أم حماس أم حزب الله أم غيرهم. المقاومة فعل وطني واستجابة وطنية في مواجهة الاحتلال. هذا مبدأ أساسي لسوريا. و”غزة اليوم تدافع عن فلسطين، وفلسطين تدافع عن سوريا، وفلسطين تدافع عن كل الدول العربية، كذلك هو الوضع بالنسبة للمقاومة في لبنان، المقاومة اللبنانية تدافع عن الجنوب، وتدافع عن كل لبنان وتدافع عن سوريا، وتدافع عن العرب أيضاً”.
الغرب هو الغرب
يقول الرئيس بشار الأسد إن حرب غزة وفلسطين أثبتت “أن الغرب استعماري ولم يتغير”، و”فضحت الغرب” أمام العالم، وأمام الغربيين أنفسهم. وأن مبادئ مثل الديمقراطية والحرية والإنسانية وغيرها من المبادئ العظيمة “ثبت أنها عبارة عن خدعة كبيرة”. بل أن الغرب فعل العكس تماماً، إذ اختلق الأكاذيب، وحاول تشويه المقاومة، وكَمَّ الأفواه أو الأصوات التي تحتج على مواقفه في الغرب نفسه. وهذا سقوط أخلاقي وسياسي وقيمي.
ترياق ضد الطائفية
استخدم الغرب الطائفية سلاحاً في مواجهة العرب، حدث ذلك في العراق قبيل احتلاله عام 2003. وكانت سوريا هي الهدف التالي. و”لاحظنا تماماً أن الخطاب في بداية الحرب [في سوريا] كان خطاباً طائفياً بالمطلق، وكان يفترض -لولا الوعي الاجتماعي في سوريا- أن يفجر البلد خلال أسابيع، وربما خلال أشهر”. وأن من أولى الأولويات “أن تكون لدينا دائماً رؤية بعيدة نقدمها، ومقارنات تنطلق من طريقة الحديث عن القضايا الوطنية”، ومن أجل احتواء هذا التهديد الذي يطال المجتمعات العربية عموماً.
الرد السوري على هذا التهديد وغيره، هو دعم المقاومة. “لأنها أثبتت أنها الترياق الأقوى والأكثر فاعلية في مواجهة الطائفية، لأنها [المقاومة هي] العنوان الوطني الجامع، والعنوان القومي الجامع”. و”نرى اليوم أن المصطلحات الطائفية التي كانت توسم بها المقاومات المختلفة، اليوم انقرضت. وحتى التسميات، لا يتحدث اليوم أحد عن “حماس” أو “حزب الله”، الحديث اليوم عن المقاومة، مقاومة في فلسطين، مقاومة في لبنان”.
الأوكسجين العربي!
عودة إلى الموقف بين العرب وكيان الاحتلال. هنا لا بد من تأكيد الوعي بأساس الصراع العميق. يقول الرئيس الأسد ابتداء إن “الكيان الصهيوني هو أضعف بكثير مما يتوهم معظم الناس في العالم العربي أو الإسلامي أو الشرق الأوسط، أو ربما في العالم ككل. هو ضعيف لأنه يحمل عوامل الموت الذاتية”. وقد سبقت الإشارة إلى أن “إسرائيل” كيان قائم ومستمر بسبب الدعم الغربي، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل: “العطالة العربية” و”الإخفاق في تدبير الصراع”.
يقول الرئيس الأسد إن ما يحدث هو أن الكيان “يحيا بالأوكسجين العربي .. مع كل أسف”. وأن حرب غزة هي جزء من سلسلة طويلة من الحروب هدفها طرد وتهجير الفلسطينيين إلى الأردن وسيناء وغيرها، في إطار “الوطن البديل”. ويستغرب الأسد “تباطؤ الوعي” لدى بعض فواعل السياسة والحكم العرب في تعيين وتعريف ما يحدث، مع أنه واضح تماماً.
يتحدث الإسرائيليون منذ عقود عدة عن خطة “الوطن البديل”. لكن “هل غيرت كل التكتيكات العربية من حقيقة هذا المشروع؟ أليست مطروحة بالطريقة نفسها اليوم؟ أليست حرب غزة والضفة هي من أجل التهجير؟ وماذا قدمت “المسايرات العربية للشعب العربي؟ هل هناك نموذج يقول إن المسايرة على حساب المبادئ الوطنية ستحمي الوطن؟”.
يخلص الرئيس الأسد للقول: “إن المخطط [الإسرائيلي والغربي] يسير من دون توقف، لن توقف إسرائيل مخططها بالنسبة لـ إسرائيل الكبرى، ولن يشفع لكل من فتح مع إسرائيل أنه سيكون خارج هذا المخطط بدايةً من الدول القريبة، ووصولاً إلى الدول الأبعد، والتهديدات التي تقوم بها الدول العربية والرفض والاستنكار والخطوط الحمر … لن يغير شيئاً، المخطط يسير وسيشمل الجميع”.
وأخيراً،
يمكن القول إن الموقف السوري عاد إلى جذوره ومبادئه في الموقف من الصراع مع كيلان الاحتلال, وفعل الشيء نفسه حيال حركة حماس، فكل فعل في مواجهة الاحتلال هو مقاومة، والمهم أن يكون في أفق وطني فلسطيني، وأفق عربي، ولا يهم عندئذ التسميات أو العناوين. وهذا أكثر من مجرد تأكيد على الأولويات والرهانات العميقة لسوريا حيال الصراع مع كيان الاحتلال والغرب والمقاومة، بما في ذلك حماس. ويتطلب الأمر مزيداً من القراءة والتقصي والتدقيق.