خاص || أثر برس “شخصٌ ماكرٌ ذو وجهين، يحب نفسه ولا يبالي بدين جنوده، وعلى استعداد بأن يضحي بهم ليحقق له ذكراً في الإعلام”، بهذه العبارات وصف “أبو علي الأنباري” نائب “أبو بكر البغدادي” والرجل الثاني في تنظيم “داعش”، قائد “هيئة تحرير الشام – جبهة النصرة”، “أبو محمد الجولاني” في عام 2014 عندما أرسله البغدادي إلى سوريا للاطلاع على أمور ” النصرة” التي كانت جزءاً من دولة “البغدادي”، بعد أن وصلته تقارير عن فساد “الجولاني” ومحاولاته التقرب من جهات غربية بغية انتزاع اعتراف بـ”الجبهة” كحركة “ثورية”، وإزالة اسمها من قوائم الإرهاب العالمي.
اليوم وبعد 7 سنوات من رسالة “أبو علي الأنباري” يبدأ “الجولاني” خطواتٍ علنية لتصديق الاتهامات القديمة من قبل “إخوة الجهاد”.
بـ “بدلة” رسمية، جاءت الإطلالة الأخيرة للجولاني رفقة الصحفي الأمريكي مارتن سميث لتؤكد ذلك، إذ تعمّد الجولاني عبر ظهوره الأخير، بألا يوحي بحالته “الجهادية” التي كان يظهر بها سابقاً، إلا أن تلك التحولات لم تأتِ دون سابق إخطار، حيث بدأ “الجولاني” منذ أشهر مساعٍ للظهور كشخص “منفتح” و”إنساني”، يزور مخيمات اللاجئين، ويظهر إلى جانبهم ويقدم لهم المساعدات بنفسه.
وجاء تعليق “النصرة” (هيئة تحرير الشام حالياً) على الصورة ليثبت الإتهامات الموجهة لزعيمها بمساعيه للتقارب مع الغرب بدلاً من نفيها، حيث خلا البيان الصادر عن مدير مكتب العلاقات الإعلامية في “النصرة”، “تقي الدين عمر”، من أي مصطلحات “جهادية” كانت تستخدم في البيانات السابقة واعتمدت على الحديث عما أسماها البيان “الثورة السورية” وما تقضيه المرحلة الحالية من “كسر العزلة” عن “الجبهة” و”إيصال ذلك إلى شعوب الإقليم والعالم، بما يسهم في تحقيق المصلحة ودفع المفسدة للثورة”.
ولا تعتبر هذه المساعي الأولى للتقارب حيث نقلت صحيفة “LETEMPS” السويسرية، في 4 من أيلول 2020، مقابلة مع الشرعي العام في “هيئة تحرير الشام – النصرة سابقاً”، عبد الرحيم عطون، الملقب بـ”أبو عبد الله الشامي”، وقال عطون للصحيفة، إن الهيئة لا تشكل أي خطرعلى الغرب، مضيفاً: “سنكون آخر من قاتل النظام وحلفاءه، لكننا لن نتمكن من القضاء عليه دون مساعدة”، فـ “النصرة” والمنطقة، حسب الشامي، لا تستطيع الاستمرار دون مساعدة الدول الغربية، وأكد أن فصيله يريد “الخروج من القائمة السوداء وعندها فقط ستتمكن المنطقة من التعافي”.
ويبدو أن تلك المساعي بدأت تلقى آذان صاغية من الغرب في ظل التحولات التي تشهدها المنطقة، وضيق خيارات أوراق الضغط السياسية والميدانية لدى المعارضة السورية والدول التي تدعمها، بما فيها الولايات المتحدة، حيث نشرت منظمة “مجموعة الأزمات الدولية”، التي تتخذ من أمريكا مقراً لها في تقرير مطول خيارات الإدارة الأمريكية الجديدة في التعامل مع ملف إدلب في الشمال السوري، وقدمت عدة مقترحات للإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن، لتصحيح سياسة واشنطن الخارجية وخاصة فيما يتعلق بالشأن العسكري، واعتبرت أن “إدلب هي إحدى الفرص لإعادة تحديد استراتيجية الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب”، ومن ضمن المقترحات التي قدمتها المنظمة، رفع “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب كون ذلك “يمكنها من لعب دور مرحلي مختلف، وفتح المجال أمامها للعب دور جديد يتناسب مع مرحلة مختلفة، عبر الضغط عليها لاتخاذ مزيد من الإجراءات التي تعالج المخاوف المحلية والدولية بشكل رئيسي، وذلك من خلال تغير سلوكها القمعي تجاه المدنيين والسماح لمنظمات المجتمع المدني بالدخول إلى إدلب.
أمريكا تريد قتل الجولاني لكنها لا تعرف مكانه!!
ودفع الجدل المثار حول صورة الجولاني الأخيرة صفحة الخارجية الأمريكية على موقع “تويتر” للتعليق عليها، حيث كتبت الخارجية عبارات ساخرة من الزي الجديد الذي يرتديه الجولاني مذكرةً بـ 10 ملاين دولار التي ستقدمها لمن يدلي بمعلومة حول مكان تواجده، لكن الغريب في الطرح الأمريكي، هو محاولة الولايات المتحدة القول بسذاجة بأنها لا تعلم أين يتواجد الجولاني، الذي تنشر له عشرات الفيديوهات وهو يتجول في الشوارع ويدخل المطاعم في إدلب، وهل من المنطق أن يتمكن صحفي من الوصول إليه وإجراء مقابلة معه ولا يتمكن أقوى جهاز استخبارات في العالم من معرفة مكانه؟، سيما أن الحالة الأمنية لزعيم تنظيم “داعش” أبو بكر البغدادي كانت أكثر تعقيداً بكثير من حالة الجولاني، ومع ذلك تمكنت أجهزة الاستخبارات الأمريكية من الوصول إليه، كما أن الغارات الدقيقة التي تنفذها بشكل متقطع المقاتلات الأمريكية وتستهدف قيادات من تنظيم “حراس الدين” المنشق عن “النصرة” يؤكد أن الولايات المتحدة لا تريد التخلص من الجولاني في هذه المرحلة، وهو ما يفرض تساؤلاً حول ما يريده الأمريكيون.
أما الجولاني فقد تمكن من خلق حالته الخاصة، التي جعلته رقماً لا يمكن “بسهولة” حذفه من معادلة إدلب المعقدة، فالرجل الأربعيني بات يشكل “صمام أمان” لترويض آلاف المقاتلين المتقبلين لفكر “القاعدة” المتشدد والموجودين الآن ضمن صفوفه، كما أنه أثبت للأمريكيين والغرب خلال السنوات الأخيرة بأنه يستطيع أن يستميل جزءاً كبيراً من هؤلاء العناصر بعيداً عن “القاعدة”، فالانشقاقات التي حصلت بعد فك ارتباطه بـ”القاعدة” لم تكن كبيرة مقارنة مع عدد المسلحين الموجودين في تنظيمه، وفي هذا السياق يبدو أن الولايات المتحدة باتت مجبرة على الحفاظ على هذا “الصمام” خصوصاً في هذه المرحلة، فاغتيال الجولاني سيؤدي إلى تفكك “هيئة تحرير الشام – النصرة” ما سيمكن فروع القاعدة المتشددة في إدلب كتنظيم “حراس الدين” من استقطاب المئات من هؤلاء المقاتلين الذين يحملون خصالاً فكرية تمكنهم من الارتباط المباشر معها، ما سيؤدي إلى إضعاف السيطرة الأمريكية والتركية المباشرة على تلك التشكيلات العسكرية، ولعل الدليل على ذلك هو الهجمات التي تتعرض لها القوات التركية من عدة فصائل متشددة على رأسها “سرية أبو بكر” و”كتائب الشيشاني”، فالأمريكيون لا يريدون أن تكون إدلب بؤرة للإرهاب (في المسميات الدولية) لأن ذلك سيعني عدم القدرة على المطالبة بوقف أي عملية عسكرية قد يشنها الجيش السوري والقوات الروسية على المنطقة، ما سيعني سحب آخر أوراق المعارضة على الخارطة السورية.
ورغم صعوبة استقراء ما ستحمله الأيام والشهور المقبلة فيما يخص ملف “الهيئة”، إلا المشهد مفتوح على كافة الاحتمالات، سواء تم اغتيال الجولاني خلال الأيام المقبلة لإيجاد حل لـ “الهيئة” التي باتت تشكل عقدة أساسية في المشهد الفصائلي شمال غرب سوريا، أم تم الانتقال إلى توظيفها سياسياً وعسكرياً مع بقاء “الجولاني” على رأس قيادتها. كما أنه لابد من الأخذ بعين الاعتبار أن خيار تصفية الجولاني من عدمه قد يكون مطروحاً كذلك على مستوى بعض الفصائل في إدلب، سيما تلك التي تشكل فروعاً أخرى لـ “القاعدة” في سوريا، بعد أن ضاقت ذرعاً بوجوده.
رضا توتنجي