بعد عقدين من تراجع صورة أمريكا العالمية، سيغير الانسحاب الكارثي من أفغانستان منظور الشرق الأوسط حول الوعد والهيمنة الأمريكية.
المقال للكاتب “منقذ داغر” ونشره “معهد واشنطن” وترجمه موقع “أثر برس“
كانت مشاهد فرار المسؤولين الأفغان من كابول، وكذلك الأفغان الذين يحتشدون في مطار كابول ويركضون خلف الطائرات العسكرية الأمريكية أو يسقطون منها، يتردد صداها بشدة في جميع أنحاء العالم، لكنها تركت انطباعاً خاصاً في الشرق الأوسط.
الرسالة التي بعثت بها طالبان وهي تستولي على آلاف الأسلحة العسكرية الأمريكية، إلى جانب صور فرحة مقاتلي طالبان وهم يتجولون ويستمتعون بداخل قصور المسؤولين الأفغان، أكثر إثارة لمشاعر الناس في الشرق الأوسط من مشاهدة عشرات أفلام هوليوود أو حملات الرسائل الممولة من قبل الحكومة الأمريكية. وعلى العكس من ذلك، فإن جميع آلات الدعاية الصينية والروسية والإيرانية، حتى لو كانت تضع كل طاقتها في الدعاية والإعلام لم تكن قادرة على تطوير مثل هذه الحملة الفعالة لتدمير المصداقية الأمريكية، أو ترك مثل هذه الندوب العميقة بين أولئك الذين يبحثون في الشرق الأوسط تجاه القيم الأمريكية.
تراجع القوة الناعمة لأمريكا:
القوة الناعمة لأي علامة تجارية، هي الانطباع الذي يصبح عالقاً لدى عقل المستهلك ويؤثر على قراراتهم. مثل السلع الأساسية، تمتلك بعض البلدان أسماء تجارية سياسية في أذهان مواطنيها صنعتها خلال مدة ليست بالقصيرة.
في ضوء العولمة، فإن أهمية هذا النوع من القوة الناعمة لها تداعيات كبيرة، وقد تضاهي القدرات العسكرية. هناك دول مثل أمريكا لديها تفوق في القوة الصلبة (الأسلحة) والناعمة (الدعاية)، بينما تتفوق دول أخرى في جانب واحد فقط.
لقد راكمت أمريكا على وجه الخصوص قدراً هائلاً من القوة الناعمة من القرن الماضي، ويمكن القول إنها أصبحت العلامة التجارية العالمية الأولى. أصبح مصطلح “الحلم الأمريكي” تعبيراً شائعاً في الأدب الاجتماعي والسياسي في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن حقيقته على الأرض، وقد استفاد الاقتصاد الأمريكي بشكل كبير من الجميع، حيث أن أفقر العقول وأكبرها لديه انطباع بأن أمريكا هي أرض الأحلام.
وسواء كان هذا الادعاء صحيحاً أم لا، فالاعتقاد به هو ما يساعد على دعم القوة الناعمة الأمريكية.
ومع ذلك، كان تآكل هذه القوة الناعمة واضحاً في الآونة الأخيرة، مدفوعاً بشكل خاص بسلسلة من الإجراءات الأمريكية في الشرق الأوسط. على الرغم من التعافي من تراجع الرأي العام الأمريكي بعد هزيمتها في فيتنام، إلا أن العقدين الماضيين شهدوا تآكلاً مستمراً للقوة الناعمة الأمريكية نتيجة أحداث كبرى أثبتت فيها السياسة الأمريكية فشلها الذريع.
بدأت هذه الفترة مع غزو العراق عام 2003، لكنها استمرت من خلال القتال ضد “داعش” في العراق وسوريا وعهد ترامب – لا سيما سوء إدارتها لأزمة فيروس كورونا – والآن الانسحاب من أفغانستان.
خلال العقد الماضي، وفقاً لاستطلاعات الاتجاهات التي أجراها استطلاع مؤسسة جالوب في 132 دولة حول العالم، انخفض التقييم الإيجابي لدور أمريكا الريادي دولياً من حوالي 50٪ في عام 2009 إلى 33٪ في عام 2019 ووصل إلى نقطة منخفضة تبلغ 30٪ في عام 2017.
عندما دخل بايدن البيت الأبيض في بداية هذا العام، أدى التفاؤل بشأن الإدارة الجديدة إلى تحسن كبير في صورة أمريكا في أعين 12 دولة شريكة صناعية كبرى وفقاً لاستطلاع أجراه معهد بيو للأبحاث، ومع ذلك فإن التصورات حول الدور الأمريكي في العالم استمرت في الانخفاض منذ ذلك الحين، كما أن الأمريكيين أنفسهم يرون هذا التحول. في استطلاع منفصل أجرته مؤسسة غالوب، أعرب 37٪ فقط من الأمريكيين عن رضاهم عن صورة أمريكا في العالم، مقارنة بـ 71٪ في عام 2001.
لم يؤثر هذا التآكل المستمر للعلامة التجارية السياسية الأمريكية دولياً على نفوذها العالمي المتدهور فحسب، بل هدد أيضاً الشبكة الإقليمية مع أتباعها التي أقامتها على مدى العقود الماضية في الشرق الأوسط، مع تصاعد القوة الناعمة لمنافسيها المباشرين الصين وروسيا.
على الرغم من أن غالبية الأمريكيين (70٪) أيدوا الانسحاب من أفغانستان عند استطلاع رأي مجلس شيكاغو في 8 آب 2021 ، إلا أن ذلك لم يجمل الصورة الأمريكية المشوهة، سواء في نظر الأمريكيين أو في عيون العالم، خاصة وأن الثقة في أمريكا قد اهتزت بالفعل. يبدو أن الأمريكيين يدركون ذلك أيضاً، حيث انخفضت نسبة تأييد بايدن داخل الولايات المتحدة إلى 46٪ منذ الانسحاب من أفغانستان.
على هذا النحو، سيتعين على أمريكا أن تتقبل تأثير هذا الانسحاب على التصورات الدولية، وخاصة أولئك الذين دعموا مصالحها في الشرق الأوسط. يعد تكرار الرسالة أحد أهم مبادئ الاتصال الاستراتيجي الناجح. يبدو أن أمريكا طبقت هذا المبدأ في الاتجاه المعاكس، ويبدو أن هذا الانسحاب غير المسؤول الأخير من أفغانستان يردد صدى الانسحابات المماثلة التي شهدتها العراق وسوريا منذ سنوات عديدة.
بالنظر إلى هذا النمط من الانسحابات، فإن كلمات الدبلوماسي الإيراني الذي التقيت به مؤخراً في بغداد لا تزال عالقة في ذهني. تفاخر بالفرق الكبير بين حلفاء أمريكا وحلفاء إيران في المنطقة، وقال لي: “انظروا إلى سوريا التي تحالفت مع إيران وتم الدفاع عنها ودعمها حتى هزمت “داعش”، وانظر إلى حلفاء أمريكا في أفغانستان الذين تخلوا عنهم وتركتهم يسقطون من طائراتها”، من المحتمل أن تكون هذه رسالة يتردد صداها بشكل متزايد مع الآخرين في المنطقة أيضاً.