أثر برس

كتب زياد غصن.. المنطق العجيب: المستوردات تتراجع والدولار يرتفع!

by Athr Press R

ما الذي يضغط على سوق القطع الأجنبي حتى يحدث مثل هذا الانخفاض في سعر صرف الليرة؟

هل هو الاستيراد النظامي؟ أم ظاهرة تهريب السلع والمواد إلى البلاد؟ أم تحويل الأشخاص لمدخراتهم وسيولتهم إلى قطع أجنبي؟

رسمياً ليست هناك إجابة صريحة على هذا السؤال رغم خطورة ظاهرة الاستياء الشعبي، فمع كل انخفاض يطرأ على سعر صرف الليرة هناك ارتفاع جديد في أسعار السلع والمواد المنتجة محلياً أو المستوردة لدرجة باتت فيها أسر كثيرة عاجزة تماماً عن تأمين أبسط مقومات البقاء.

وحتى بحثياً، فإن الإجابة على السؤال السابق لاتزال إما في إطار الاجتهادات والرؤى الشخصية غير المبنية على بيانات وتقديرات إحصائية، أو أنها تتجنب الخوض في التفاصيل لأسباب متعددة. هنا سنحاول من خلال هذه المادة مقاربة ماهية الأثر الذي أسهم به الاستيراد النظامي في متغيرات سعر الصرف الأخيرة، ولنكمل في مقالة ثانية تناول أثر التهريب بشقيه السلعي والمالي على سعر الصرف، والسيولة المتاحة محلياً من القطع الأجنبي.

قراءة متأخرة!

رغم أن جميع المؤشرات السياسية والميدانية كانت تدلل منذ الأيام الأولى على أن البلاد دخلت في أزمة طويلة الأمد، إلا أن الحكومات المتعاقبة منذ العام 2011 ولغاية العام 2017 لم تدرك هذه الحقيقة وتعكسها على قراراتها المتعلقة بإدارة الملف الاقتصادي، ويبدو هذا جلياً في طريقة التعاطي مع مسألة المستوردات التي حافظت على وتيرتها المعتادة قبل الأزمة، وإن كانت بعض قرارات المنع تصدر بين الفينة والأخرى، إلا أنها لم ترق إلى مستوى مأسسة الملف وضبطه بمعايير تضمن الشفافية والعدالة، إذ أن مبدأ التمييز والمفاضلة في منح إجازات الاستيراد تحول في مرحلة ما إلى ما يشبه “السوق السوداء”. وتالياً فإن هذه السياسة أفرغت السوق المحلية من القطع الأجنبي الذي كان لا يزال يتدفق عبر الحوالات الخارجية في المقام الأول، وفي استنزاف احتياطي البلاد من القطع الأجنبي وهو أمر أشارت إليه الحكومة السابقة عندما أكدت في أكثر من مناسبة أن الحكومات التي سبقتها تصرفت بمبلغ كبير من احتياطي البلاد من القطع الأجنبي، إما عبر سياسة المزادات وعمليات البيع التي اتبعها المصرف المركزي آنذاك، أو  بتمويل مستوردات البلاد.

حسب البيانات الرسمية المعدة من  قبل المكتب المركزي للإحصاء فإن قيمة مستوردات البلاد في العام 2011 وصلت إلى أكثر من 19.8 مليار دولار، لكن هذا الرقم شهد في الأعوام اللاحقة تراجعاً واضحاً تحت تأثير تعمق الأزمة وخروج مناطق واسعة عن سيطرة الحكومة، حيث تراجعت قيمة المستوردات في العام 2012 إلى حوالي 14.9 مليار دولار، وفي العام 2013 إلى حوالي 9 مليارات دولار، وصولاً إلى 4.8 مليارات دولار في العام 2016، ومع استعادة الحكومة السيطرة على مناطق واسعة من البلاد عادت قيمة المستوردات للارتفاع تدريجياً منذ العام 2017 حيث سجلت ما يقرب من 5.9 مليارات دولار، وهذا على ما يبدو حراك بعض العقول لتفكر بضرورة العودة إلى سياسة ترشيد المستوردات التي كانت متبعة في ثمانينات القرن الماضي، مع خطوة أخرى مكملة تتمثل في إيجاد البدائل الإنتاجية الوطنية لتأمين احتياجات السوق المحلية. وتظهر بيانات السنوات الثلاث الأخيرة تراجعاً في قيمة المستوردات رغم الانخفاض الكبير الذي طرأ على سعر صرف الليرة، ووصل إلى مستويات غير مسبوقة خلال العام 2020 والأشهر الأولى من العام الحالي، لكن هو تراجع يخرج عامل الاستيراد من دائرة الاتهام لما يتعرض له سعر الصرف مؤخراً في السوق الموازي من انخفاض شديد، وتالياً تركيز الاهتمام على العوامل الأخرى، والتي ذكرنا بعضاً منها في بداية هذا المقال؟

تجربة الثمانينات

الإجابة على السؤال الأخير تحتم قراءة تحليلية لبيانات الاستيراد خلال العامين الأخيرين وربطها بتقلبات سعر الصرف، وهذا ما عملنا عليه في هذه المادة بعد الاستعانة بالبيانات الإحصائية من وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية.

أولى الاستنتاجات العامة التي يخرج بها المرء من قراءته للبيانات الإجمالية الخاصة بالتجارة الخارجية تتمثل في حدوث انخفاض في عجز الميزان التجاري الذي بلغت قيمته في العام 2020 حوالي 3.4 مليار يورو فقط، وحتى عند المقارنة بين بيانات وزارة الاقتصاد لعامي 2018 و2020، فإنه يلاحظ أنّ العجز في الميزان التجاري انخفض بقيمة تصل لحوالي 2.5 مليار يورو، أي ما نسبته 42%، وذلك نتيجة للانخفاض الملحوظ في فاتورة المستوردات أولاً، ومن ثم التحسن المتدرج في قيمة الصادرات.

أهمية هذا التخفيض الحاصل في عجز الميزان التجاري تظهر عند مقارنته مع العجز المسجل في العام الأول (2011) من عمر الحرب، والذي بلغت قيمته آنذاك حوالي 10 مليارات يورو، أي بفارق يزيد على 7 مليارات يورو نجم بشكل أساسي عن التراجع الحاصل في قيمة المستوردات المسجلة في العام 2011 ونظيرتها في العام 2020. وهو تراجع بلغت نسبته حوالي 77% ولتكون بذلك أعلى نسبة تراجع تشهدها المستوردات خلال سنوات الأزمة على الرغم من اضطرار البلاد حالياً إلى استيراد العديد من المواد الحيوية التي كانت تنتج محلياً، وتصدّر جزءاً منها قبل الحرب كالحبوب والنفط.

لم يتغير الوضع مع بداية العام الحالي، إذ تشير البيانات الأولية التي تم الحصول عليها إلى حدوث انخفض في حجم المستوردات خلال شهري كانون الثاني وشباط من العام الحالي بنسبة تصل إلى 32% وذلك مقارنةً مع الفترة نفسها من عام 2020. إذاً في الوقت الذي تتراجع فيه قيمة المستوردات رغم زيادة الاحتياجات الداخلية، كان سعر صرف الليرة في السوق الموازي يشهد منذ منتصف العام 2019 تذبذبات شديدة قلبت تأثيراتها أحوال المواطنين المعيشية رأساً على عقب!!.

البيان عام 2018 عام2019 عام2020
مستوردات/ مليار يورو 6.3 5.2 4

 

لكن، ومع ذلك الانخفاض، ربما تكون لتركيبة المستوردات دور ما في الطلب على القطع الأجنبي في السوق المحلية حسب ما يعتقد البعض؟

حسب تركيبة المستوردات المستندة إلى بيانات وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية فإن قطاع الصناعة كان الأكثر استحواذاً على مستوردات القطاع الخاص خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة وبنسبة وصلت إلى 59% في العام 2019 و60% في العام 2020، ثم جاء القطاع الزراعي ثانياً وبنسبة بلغت حوالي 11% في العام الماضي، أي أن حصة كل من الصناعة والزراعة معاً وصلت إلى أكثر من 71% في العام الماضي. وهذا يشكل بداية التعامل مع ملف المستوردات من منظور أن الأولوية هي للمواد الأولية اللازمة لزيادة حجم الإنتاج من جهة، وتأمين السلع الضرورية في حياة المواطنين من جهة أخرى.

وماذا عن الصادرات؟

ليست المشكلة في حجم المستوردات فقط، والحل لن يكون في ترشيد الاستيراد وحصره بالاحتياجات الأساسية للبلاد، فصادرات البلاد لها الأهمية نفسها وربما أكثر، وإلا فإن عجز الميزان التجاري وإن حافظ على مستوى معين فسيكون معرضاً مستقبلاً، وتحت ضغط تزايد الاحتياجات المحلية، إلى الارتفاع من جديد.

كما هو معلوم فإن قيمة الصادرات السورية أخذت بالتراجع منذ بداية الأزمة، وتحديداً مع صدور أول موجة من العقوبات الغربية على قطاع النفط السوري، وتعمق التراجع أكثر مع تضرر الإنتاج المحلي نتيجة خروج العديد من المنشآت والمعامل والورش والمساحات الزراعية من دائرة الاستثمار والإنتاج، ورغم التصريحات الحكومية التي كانت تؤكد خلال سنوات الحرب الأولى حدوث تحسن في حجم الصادرات، إلا أن البيانات كانت سرعان ما تناقض ذلك.

اليوم تشير بيانات وزارة الاقتصاد إلى أن الصادرات السورية بدأت بالنمو  ككمية وقيمة منذ العام 2018 واستمر ذلك لغاية العام الماضي، الذي كان الأفضل منذ العام 2013 في حجم الصادرات، هذا رغم بعض القرارات التي صدرت أثناء محاولة مواجهة تفشي فيروس كورونا، ومنع موجبها تصدير بعض السلع والمواد لتلبية احتياجات السوق المحلية.

وتظهر المقارنات الإحصائية أن قيم الصادرات المسجلة في العام 2020 زادت بشكل واضح عن قيم الصادرات المسجلة في عام 2018 البالغة حوالي 430.3 مليون يورو، وعن عام 2019 البالغة فيه حوالي 523.3 مليون يورو بنسبة بلغت على التوالي 50% و37%، وحتى بالنسبة لشهري كانون الثاني وشباط من العام الحالي، فقد زاد حجم الصادرات مقارنةً بالفترة نفسها من العام بنسبة تصل إلى 43%. وكانت أهم القطاعات التي شهدت نمواً على صعيد الصادرات :قطاع الصناعات النسيجية الذي شهد زيادة في نسبة صادرات الألبسة وتوابعها خلال الفترة المذكورة بنسبة 61% ومن الأقمشة بنسبة 95%.، كما أن صادرات المصنوعات الغذائية زادت بنسبة 25%.. بينما كانت نسبة الزيادة في الصادرات الزراعية متباينة بين محصول وآخر، فصادرات الخضار المشكلة زادت بحوالي 565%، الفواكه المشكلة 17%، زيت الزيتون 29%، اللوز 488%، المحاصيل الجافة كحبة البركة والزهورات وعرق السوس والمحلب 30%..

إذاً، وبناء على البيانات الإحصائية الرسمية السابق ذكرها، فإن الاستيراد والعجز التجاري حالياً ليس لهما علاقة بما يشهده سعر الصرف من انخفاض شديد، وهذا يعني بوضوح تمام أن هناك أسباب أخرى قد تكون آنية تسببت بزيادة الطلب على القطع الأجنبي في السوق المحلية، أو تراكمية أدى تضخمها وعدم معالجتها إلى الوضع الحالي الخطير.

زياد غصن

أثر برس

المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

اقرأ أيضاً