خاص|| أثر برس يمر نهر الفرات بأسوأ مراحل تدفقه وغزارته ويشهد حالة انحسار شديد، ما تسبب بظهور ما يُسمى محلياً بـ”الحوايج” أي الجزر، الأمر الذي يُهدد الواقع الزراعي، ويُعرقل وصول مياه الشرب النقيّة المُستجرة بمحطات تصفية نموذجيّة للسكان.
من يتحمل مسؤولية انسحار النهر
وفق تصريحات المسؤولين السوريين المعنيين، تتحمل تركيا بالدرجة الأولى المسؤولية، نتيجة السياسة التي تتبعها بحجز مياه الفرات لملء سدودها من دون الأخذ بعين الاعتبار حصصها، وذات الأمر فيما يتعلق بالعراق.
وكانت تركيا قد وافقت عام 1987 على توقيع بروتوكول ثنائي مع سوريا (بروتوكول عام 1987 بشأن المسائل المتعلقة بالتعاون الاقتصادي بين سوريا وتركيا) يضمن حداً أدنى من تدفّق نهر الفرات على الحدود بمقدار 500 متر مكعب في الثانية، وهو ما يعادل 56.2% من التدفق الطبيعي على الحدود، وذلك في مدة ملء خزان أتاتورك وبانتظار إبرام اتفاقية ثلاثية، وجاءت هذه الاتفاقية على صيغة “موافقة تركية”، لأن أنقرة اعتبرتها نابعة من تفهّم تركي لاحتياجات دول المصب، وليست استجابة لأي حق سوري أو عراقي في نهر الفرات الذي لا تراه تركيا نهراً دولياً، ولتثبيت هذا البروتوكول المُوقَّع بين سوريا وتركيا، جرى التوقيع على اتفاقية ثنائية بين سوريا والعراق عام 1990 (محضر مشترك بين سوريا والعراق، 17 نيسان 1989)، جرى فيها تحديد حصة كل دولة من مياه نهر الفرات التي سمحتْ تركيا بتدفّقها نحو الأراضي السورية.
وتم تحديد النسب بواقع 42% لسوريا، و58% للعراق، وذلك باعتماد طول النهر في كلا البلدين وحجم حوضه، بينما لا اتفاقية ثلاثية حتى الآن عن تقاسم مياه النهر بين دولة المنبع ودولتَي المصب، وهو أمر تتهرب منه تركيا باستمرار .
السدود التركيّة:
ينبع نهر الفرات من جنوب شرقي تركيا، ويبلغ طوله 2,781 كم ، بمساحة حوض تبلغ 444 ألف كم²، يقع 28% منه في تركيا، و17,1% في سوريا، و39,9 في المئة في العراق.
وتشكّل مياه هذا النهر نسبة 80-85% من الموارد المائية لسوريا، بينما شكلت السدود التي أقامتها تركيا أولى أسباب هذا الانحسار في نهر الفرات، وهي السدود التي جاءت في إطار مشروع “الكاب”، والذي وضعت خطوطه الأولى في العام 1930، وترى فيه تركيا وما يرشح عنه من مشاريع تنمية زراعية وهيدروليكية كبرى ضرورة حتمية للحفاظ على الآمال التنموية، متجاهلة حصص سوريا والعراق من النهر، بوصفهما دولتين مشاطئتين لها في دجلة والفرات، وأنّ مشاريعها الهيدروليكية والزراعية العملاقة تهدّد بعمق إمدادات المياه في هذين البلدين الزراعيين.
ووفق تقارير تم إنجازها بهذا الشأن فإن مشروع “الكاب (جنوب شرقي الأناضول)”، من بين مشاريع بنى تحتية فرعية يتضمن بناء 22 سداً على نهري الفرات ودجلة، واكتمل منها حتى الآن 17 سداً، فضلاً عن 19 محطة توليد هيدروكهربائية، وهو واحد من أكبر مشاريع التنمية الإقليمية في العالم، وينقسم إلى 13 مشروعاً كبيراً، ستة مشاريع في حوض دجلة وسبعة في حوض الفرات، ويلمس سكان محافظات حلب والرقة ودير الزور تأثيرات هذا المشروع وارتداداته في القطاع الزراعي ووفرة مياه الشرب أو تفشي الأمراض مثل “الكوليرا”.
وبلغ انخفاض المنسوب حسب تقارير لمديرية الموارد المائية بدير الزور إلى 40 سم، مؤكدةً تدني غزارة النهر إلى مستويات خطيرة، علماً أن وضعها الطبيعي يجب أن يصل إلى 500 متر مكعب.
تأثيرات زراعيّة:
تتكرر كل عام في مثل هذه المدة تزامن مشاكل انخفاض منسوب مياه نهر الفرات، مع موسم القمح الذي تسعى الحكومة السورية للتوسع بزراعته وإعادة تأهيل قطاعات الري الحكوميّة، إضافةً لإعادة الحياة لجمعيات القطاع التعاوني الفلاحية والتي تغطي مساحات بآلاف الهكتارات، وثلاثة قطاعات ري حكوميّة أُعيد تأهيلها في العام الفائت وبداية الجاري وهي: “القطاع الثالث والخامس والسابع، وهي تروي قرابة 22 ألف هكتار من الأراضي الزراعية بالريف الشرقي من دير الزور، إلى جانب تأثيرها على موسم القطن والخضار الصيفيّة، وفي هذا الصدد أكد رئيس اتحاد فلاحي دير الزور خزان السهو، في حديث لـ”أثر” أن انحسار نهر الفرات أدى إلى توقف 10 مجموعات لجمعيات فلاحيّة في قرى الريف الغربي عن العمل نتيجة الانخفاض الذي تسبب بعدم وصول المياه إلى “محركات الري التابعة لها في الشميطية وأبو شهري وزغير والمسرب ومعدان وعياش”، بالإضافة إلى الجمعيات الفلاحيّة في البوليل والطوب بالريف الشرقي، موضحاً حاجة أكثر من 20 جمعية أخرى إلى آليات كبيرة (بواكر) لغرض تعزيل وفتح مجارٍ ضمن النهر لإيصال المياه إليها، وذلك يؤثر في إكمال ريات المحصول، في ظل انحباس الأمطار المستمر منذ الشهر، وتتجاوز المساحات المزروعة منه وفق خطة مديرية الزراعة 32 ألف هكتار، مع الإشارة إلى أن القمح يحتاج إلى الري حتى منتصف شهر أيار، بينما أكد مدير التشغيل والصيانة بحوض الفرات الأدنى المهندس حسين حمدان لـ”أثر” هذا الواقع الخطير في الانخفاض الحاد بمنسوب نهر الفرات، الأمر الذي أثر سلباً في الطاقة التشغيلية مع تدني المياه الواردة لمحطات الضخ، فبات الحل إسعافياً بتشغيل مجموعتي ضخ من أصل ثلاث في كل محطة، وزيادة ساعات التشغيل إلى 24 ساعة يومياً، إضافةً لاعتماد الري بالتناوب، وإيلاء العمل على تعزيل المجاري النهرية والقنوات المؤدية للمضخات.
بينما تبدو مشكلة التعامل مع هذا الانحسار أكبر لجهة الآليات اللازمة لفتح وتعزيل المصارف والقنوات في قطاع الري الحكومي، إذ إن فرع حوض الفرات الأدنى المعني بها لا يمتلك سوى آلية واحدة (باكر) لإجراء العمل آنف الذكر، حسب ما ذكر مديره المهندس وليد الضابط، والذي أشار إلى أن فرعه اضطر لاستعارة (باكر) من فرع حلب لغرض التعزيل وما يتبعه، علماً أن فرع حوض الفرات بدير الزور يضم أسطولاً من مختلف الآليات، سيما الثقيلة، ومنها تلك الآلية التي كان عددها يصل إلى 28، وواقع هكذا آليات للعمل مماثل لفرع الموارد المائية الذي لا يمتلك سوى واحد منها، ويبدو الوضع أصعب لدى الجمعيات الفلاحية التي تفتقد الآليات المذكورة بالمطلق، الأمر الذي يضطرها للجوء إلى القطاع الخاص، والمتوفر منها في العام في فروع التشغيل والصيانة أو الموارد المائية أو حوض الفرات الأدنى، الأمر الذي يسبب تأخير أعمال الحفر والتعزيل لغرض إيصال المياه لمحركات الري بالنسبة لقطاعات الري والجمعيات الفلاحيّة.
مياه الشرب والصحة:
يؤثر انحسار نهر الفرات وتدني تدفقه سلباً في تشغيل محطات مياه الشرب في دير الزور كما جرى منذ أيام لمحطتي حطلة والحسينية، إذ يتم تلافي ذلك حسبما أفاد مدير عام مياه الشرب والصرف الصحي المهندس لورانس الحسين، لـ”أثر” بحلول مباشرة بمد “شراقات” المحركات إلى عمق النهر، لافتاً إلى أن “تزايد الانحسار يُشكل معضلة لتزويد السكان بالمياه، سيما ونحن مقبلون على فصل الصيف، وذلك نظراً للضغط الذي يحدث بفعل برنامج التقنين الكهربائي، كون أغلب هذه المحطات تعتمد التيار في تشغيل مولداتها، إضافة إلى أن عمليات التصفية وترقيد المياه تحتاج إلى وقت”.
وإلى جانب تأثير انحسار النهر في مياه الشرب، يؤثر انحساره أيضاً في الواقع الصحي لجهة ظهور أمراض كمرض “الكوليرا” الذي سجل إصابات به صيف العام الفائت أغلبها حالات قادمة من مناطق خارج سيطرة الدولة السوريّة أو مخالطة لها، وفق ما أكده مدير صحة دير الزور الدكتور بشار الشعيبي لـ”أُثر”، لافتاً إلى كون الانحسار يتسبب بذلك نتيجة التلوث الذي يصيب مياه النهر مع غياب محطات التصفية للصرف الصحي، هذا وافتتحت مديرية الصحة صيف العام 2022 مركزاً علاجياً للكوليرا مزود بتجهيزات العمل كافة.
يذكر أن نهر الفرات الذي يشهد اليوم انحساراً بات يهدد المحاصيل الزراعية ويؤثّر في وفرة مياه الشرب في سوريا والعراق، كان يصفه كبار السن وأبناء أجيال الثمانينات والتسعينات، وحتى أوائل الألفينات بـ”المُخيف” لغزارته وسرعة جريانه.
عثمان الخلف- دير الزور