خاص|| أثر برس أظهرت الحرب السورية منذ آذار/مارس 2011 وجود اختلالات خطرة في العلاقة بين دمشق و”حماس”، إذ بدت مواقف الأخيرة أكثر جذرية حيال سوريا منها حيال كيان الاحتلال. وتحدث خصوم دمشق، حتى وقت قريب، بأن الأخيرة فقدت صفتها وموقعها المركزي في قضية فلسطين، وأن حركة مقاومة فلسطينية تقف ضدها، واستخدمت قوتها الرمزية والمادية وخبراتها العسكرية لـ”إسقاط” النظام السياسي فيها.
فهل خلقت الحرب السورية واقعاً جديداً بين دمشق وحماس، أم أنها كشفت عن صدوع واختلالات بين الطرفين، وافتراق في التطلعات والرهانات، ولكن غير مُوعىً بها أو مسكوتٍ عنها أو غير مُفكرٍ فيها؟ وهل يمكن تفسير ذلك الانقلاب الحاد في الموقف من قبل حماس اتجاه دمشق، لينقلب من “تحالف” إلى “قطيعة” بل إلى عداء شديد من قبل حماس لدرجة الانخراط الحاد في الحرب، على مستوى الخطاب السياسي والحشد والاستقطاب، وعلى مستوى الأعمال العسكرية؟
لا بد من التنويه بأن الكلام لا يريد نكأ الجراح، ولا العودة إلى الوراء، وهو يقدر أهمية ما حدث في طوفان الأقصى، وسوف يكون ذلك موضعاً لنصوص أخرى، تتناول تأثير حدث غزة في الموقف بين دمشق وحماس. ولكننا إذ نحتفي بحدث المقاومة في غزة، فإننا مهتمون بقراءة ما حدث قبل ذلك بين حماس ودمشق، الأمر الذي يساعد في تفسير أو ربما تجسير أو وصل ما انقطع بين الجانبين في سنوات الحرب السورية الأولى.
إذا أردنا أن نقرأ الموقف بين حماس ودمشق قراءة تفكيكية، أمكن القول إن الاختلالات كانت موجودة، ولكن كامنة، ثم إن الحرب السورية كشفتها من جهة، وزادت عليها من جهة أخرى. ويقال إن الأزمات والحروب “تُسرِّع التاريخ”، بمعنى أنها تُعجِّل في تطورات كانت تحدث ببطء وتردد وخشية وضبط وانضباط، وتُوسِّع الاحتمالات والممكنات، لتحدث الأمور بسرعة وأحياناً بخبطة واحدة. حدث شيء من ذلك في موقف حماس اتجاه الحدث السوري، إذ تسارعت الأمور تسارعاً غريباً ومريباً، للكثيرين، وانتهت إلى قطيعة فعداء من قبل حماس. ولم تقابل دمشقُ العداءَ بعداء.
يعلم السوريون وغيرهم أن وجود حماس في دمشق أو استقبالها فيها كان موضع خلاف حاد مع الولايات المتحدة، وتسبب بضغوط شديدة على دمشق. والواقع أن وجودها كان خلافياً داخل بعض نخبة صنع القرار في دمشق أيضاً، ولدى فواعل الفكر والسياسة أيضاً. ولم يكن من السهل قبولها، وهي امتداد لحركة “الإخوان المسلمين”، وثمة أسئلة كثيرة عن ظروف نشأتها وأفق حركتها وموقعها من حركة التحرر الفلسطينية.
ويتذكر كاتب هذه السطور أنه تم توجيه أسئلة إلى عدد من الخبراء والمختصين تتعلق باستقبال حماس في دمشق، وهي الحركة الجهادية الإسلامية القريبة من “الإخوان المسلمين” أو هي أحد تشكلاتها. واطلع الكاتب على تقديرات للموقف ومداولات، ذهب غالبها أو كثير منها آنذاك لعدم تفضيل وجودها في دمشق.
ما حدث هو أن دمشق قررت استقبال حماس بوصفها حركة مقاومة فلسطينية وليس “حركة إسلامية إخوانية”، وانطلاقاً من أولوية المقاومة والقضية الفلسطينية والصراع في مواجهة كيان الاحتلال. لكن عدم الارتياح بقي حاضراً عند الكثيرين، وأعني فواعل الفكر والسياسة. وبدا أن الأمور سارت على ما يرام أو هكذا كانت التقديرات، حتى آذار/مارس 2011.
وقد يتذكر كثيرون أيضاً، أن الضغوط الأمريكية لإخراج المنظمات أو الفصائل الفلسطينية (الفصائل العشر، كما كان يقال آنذاك) من دمشق، أو إغلاق مكاتبها ومعسكراتها، كان بنداً دائماً تقريباً في أجندة واشنطن حيال دمشق. وجاء كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الكاذب إبان الاحتلال الأمريكي للعراق إلى دمشق، حاملاً بنوداً مزجت أمريكا فيها بين التهديد والترغيب.
وإذاً، تحملت دمشق الكثير من أجل مجرد وجود حماس فيها، ونحن لا نتحدث عن الدعم والإسناد في الأمور الأمنية والعسكرية… إلخ، وإنما تبعات ومسؤوليات دمشق حيال المقاومة الفلسطينية، والضغوط التي مورست عليها عربياً وإقليمياً ودولياً، وأحياناً فلسطينياً. وهذا باب فيه كلام كثير.
وهكذا، كان من الصعب مجرد تخيُّل كيف تنقلب الأمور رأساً على عقب، ليس من التحالف إلى الانفكاك والافتراق فحسب، وإنما إلى العداء والانخراط الحاد والعنيف في الحرب السورية. وحتى الآن لم تقل دمشق ما لديها بهذا الخصوص. وما يتداوله الناس من تورط حماس (أو تيار منها) في الحرب هو جزء يسير جداً، الأمر الذي يفسر ذلك الشعور بالصدمة لدى السوريين من حركة مقاومة يفترض أنها تقرأ وتقدر موازين الأمور، انطلاقاً من خط الصراع في مواجهة كيان الاحتلال وفي أفقه.
وهنا يمكن الإشارة إلى أن حماس (أو تيار فيها، من باب التأكيد!) وكيان الاحتلال توافقا موضوعياً _حتى لا نقول قصدياً!_ على أن تكونا في صف مناهض لدمشق في الحرب السورية. والتقت بعض جماعات المعارضة السورية معهما في مناهضة النظام السياسي والدولة. وحدث أن بعض تلك المعارضة (السورية) أراد “إعادة إنتاج” فكرة العدو، لتصبح سوريا عدواً وكيان الاحتلال حليفاً له! وهذا أيضاً باب فيه كلام كثير.
صحيح أن حماس في مواجهة كيان الاحتلال، لكنها (وأعني هنا تيار فيها، كما تتكرر الإشارة) كانت معها موضوعياً، في اصطفافات الحرب السورية، كما تتكر الإشارة أيضاً، ولا تزال معها في جانب من اصطفافات الإقليم، أو هي بين-بين. كيف؟
ربما أمكن القول إن حماس يتجاذبها توجهان:
- الأول،
إيران وحزب الله. وبالتأكيد ثمة توافقات أبعد من حاجة حماس إلى الدعم والتمويل. ويمكن القول إن حدث غزة (تشرين الأول/أكتوبر 2023) هو _في جانب كبير منه_ أحد نتائج هذا التوجه، وهو بالقطع أحد نتائج الوجود الإيراني في الحدث الفلسطيني وفي الصراع مع كيان الاحتلال. ومن الصعب استمرار المقاومة في غزة من دون دعم إيران وحزب الله لها.
- الثاني،
تحالف إقليمي، يضم مبدئياً تركيا وقطر، تريده وتحتاج إليه حماس. يدعمها مادياً ومعنوياً ليكون حاضراً في ديناميات الحدث الفلسطيني والإقليمي. ويمكنه أن يكون وسيطاً بينها وبين كيان الاحتلال وأمريكا وأوروبا. ولكنه ليس مع خياراتها العسكرية وإلى حد ما السياسية، أو أن لديه مقاربته بهذا الخصوص.
الحليف الأول مناسب للدعم الأمني والعسكري والمادي، وبالطبع السياسي، ذي الصلة بالمقاومة المسلحة في مواجهة كيان الاحتلال. الحليف الثاني مناسب للدعم السياسي والإعلامي، وبالطبع المادي من أجل حكم قطاع غزة. ويمثل الحليف الثاني ملجأ للقيادات والكوادر للعيش وتدبير شؤونهم الحياتية وشؤون عائلاتهم، والاتصال السياسي… إلخ
التحالف الأول يرفضه كل من كيان الاحتلال وأمريكا، بالإضافة إلى أن دولاً عربية عدة ترفضه. وأما التحالف الثاني فهو مقبول من كيان الاحتلال وأمريكا. وهذا يثير أسئلة من قبيل: كيف توازن حماس بين تحالفات متناقضة، وكيف تتدبر ذلك؟
لسنا بصدد الإجابة عن السؤال الآن، فهذا ممكن في مناسبة أخرى، إنما يمكن أن نتتبع أحد خطوط المعنى فيه، بالإشارة إلى كيان الاحتلال.
ثمة حلفاء مشتركون للطرفين (حماس، كيان الاحتلال)، اشتراكاً مباشراً أو غير مباشر. تركيا مثلاً حليف لأمريكا. هذا ليس سراً، والأخيرة حليف للكيان. هذا قد لا يفضي حكماً إلى ذاك، لكن ثمة “دالة ارتباط”، من المهم التنبه إليها ووعيها. ولكننا لن نذهب بعيداً في تتبع ذلك، سوف نحبس المعنى أو نقصره، كي لا يصل التحليل إلى مواضع، يعززها منطق الأمور، ولكننا لا نريدها!
لعل من سمات الحدث السوري منذ العام 2011 وحتى وقت قريب، وربما حتى اليوم، أنه حدث التقديرات والرهانات الخاطئة والمتعجلة. وكان ذلك بمنزلة “التباس جماعي” بين السوريين أنفسهم، حيال أنفسهم وبلدهم، فكيف بالآخرين؟
وحدث أن وقعت حماس في تقديرات ورهانات خاطئة، وما قلناه تواً عن “التباس جماعي” وقعت فيه حماس وغيرها. وإذ نحلل ونفسر، فإننا لا نبرر. إنما من المهم وضع الأمور في إطار يساعد في الفهم والتحليل وليس مجرد التهجم والتأثيم.
انخرطت حماس (أو تيار فيها) في الحرب، وكان موقفها صادماً وموجعاً. لاحظ السوريون كيف وقفت الحركة “قصدياً” مع الجماعات المسلحة وتركيا، و”موضوعياً” مع وأمريكا وكيان الاحتلال وغيرها، في عداء شديد لسوريا، بعنوان تأييد “الثورة السورية”. وبالطبع ثمة تداخلات تتعلق بـ”الجانب الإسلاموي” أو “الإخواني” من المعارضة السورية، والتداخلات الأخرى في الإقليم والعالم. بدا المشهد منظوراً إليه من دمشق، كما لو “أن الخلق تبدلوا جميعاً”، بتعبير ابن خلدون. فهل توقف الأمر على حماس؟
واليوم، جَلَتْ السنواتُ والتطورات الكثير من الأمور في الحدث السوري، ولم يعد بالإمكان تجاهل ذلك. ربما لم تتغير القناعات كثيراً، لكن إكراهات الحدث دفعت بأطراف وفواعل كثيرة لأن تجري مراجعات أو على الأقل أن “تُغيِّر النمط”، ومنها ما أعاد الاتصال مع سوريا، أطراف كانت على خصومة وعداء شديدين معها مثل: السعودية وتركيا والأردن وغيرها.
وكان من المفترض أن ينسحب جانب من ذلك إلى حركة حماس، وخاصة مع الجهود الإيرانية المتكررة التي دفعت للتقارب بينها وبين دمشق. ومن المؤكد أن أموراً كثيرة حدثت بين دمشق وحماس، مع حدث غزة (تشرين الأول/ أكتوبر 2023) وقبله، بدفع من إيران أو من دونه.
ثمة بداهة حاكمة للمزاج السياسي (قل: التفكير السياسي) لدى السوريين، وهي: أولوية أو بداهة الصراع في مواجهة كيان الاحتلال من جهة، ومركزية قضية فلسطين لديهم من جهة ثانية. ودمشق لم تغلق باباً في وجه أحد. المهم أن يكون ميزان التوجيه هو الصراع في مواجهة كيان الاحتلال.
الدكتور عقيل سعيد محفوض