خاص || أثر برس لطالما كانت منطقة عفرين بريف حلب الشمالي، على مدار العقود الماضية، تتصدر واجهة الزراعة في محافظة حلب، وتحجز مكاناً مرموقاً لها على الخارطة الزراعية في سوريا بشكل عام، في ظل المساحات الشاسعة من الأراضي الخصبة، والأشجار الزراعية المثمرة التي حقق إنتاجها أرقاماً قياسية في البلاد، وخاصة فيما يتعلق بثمار الزيتون الذي اقترن اسمه باسم عفرين منذ القدم.
خيرات تلك المنطقة جعلتها مطمعاً دائماً للقوات التركية والمجموعات المسلحة التابعة لها، الذين وبسيطرتهم على عفرين في آذار عام /2018/، وجدوا ضالتهم في العثور على خزان لا ينضب من الخيرات والأرزاق، فنفذوا مختلف أنواع السرقة والجرائم والانتهاكات بحق الأهالي ومنازلهم وأراضيهم الزراعية، ولعل في مقدمة تلك الانتهاكات وأخطرها، يتمثل في جريمة “التحطيب” الجائر، الذي لم يتوقف منذ سيطرة تركيا وفصائلها على المنطقة وحتى اليوم.
“التحطيب” الجائر تقاسم صدارة الانتهاكات التركية جنباً إلى جنب مع سرقة المواقع الأثرية، فعلى مدار السنوات الماضية، كانت الأراضي الزراعية في مختلف أنحاء منطقة عفرين، مسرحاً لعمليات قطع الأشجار بشكل عشوائي من قبل مسلحي فصائل تركيا، على مدار العام، بغية بيع أخشابها حطباً للتدفئة في باقي مناطق سيطرتهم شمال البلاد، حيث لم تفرق تلك الفصائل خلال عمليات التحطيب بين الأشجار المثمرة وبين الأخرى اليابسة، لتطال عمليات التحطيب أعداداً هائلة من الأشجار على اختلاف أنواعها وأصناف ثمارها، “آكلة” بذلك الأخضر واليابس من أشجار المنطقة.
يقول أحد سكان قرية “بلبل” بريف منطقة عفرين الشمالي، خلال حديثه لـ “أثر”: “أصبحنا معتادين منذ دخول تركيا ومسلحيها إلى منطقتنا، على اقتحام أراضينا وقطع أشجارنا التي ورثناها عن أبائنا وأجدادنا أمام أنظارنا ودون أن نتمكن من إبداء أي ردة فعل، سوى الوقوف ومشاهدة ما يحصل، وخاصة أن المسلحين كانوا لقنونا دروساً مع بداية دخولهم بأن كل من يعترض على تصرفاتهم سيلقى مصيراً محتوماً إما بالقتل مباشرة رمياً بالرصاص، أو بالاقتياد إلى سجونهم والتعرض لمختلف أنواع التعذيب المريرة”.
“م. د” صاحب أرض زراعية في ناحية “شيخ الحديد” غرب عفرين، أكد لـ “أثر” بأن التحطيب الجائر الذي ينفذه المسلحون في أراضي المنطقة، زاد من الأعباء المعيشية المفروضة في الأصل على الأهالي منذ سيطرة فصائل تركيا على عفرين، فإلى جانب الضرائب والأتاوات والخطف المستمر، أصبحنا نُحارَب حتى في مصدر رزقنا، وأشجار أراضينا التي أصبحت تُقطع أمامنا دون أن نتمكن من فعل شيئ لإنقاذها، وبالتالي انخفض إنتاج الأراضي الزراعية إلى نسب تتراوح ما بين /20%/ إلى /40%/ فقط من الإنتاج الفعلي، ما زاد من حالة الفقر والمعاناة التي نعيشها”.
وأضاف “م. د” بالقول: “صدقاً بأن كل حزننا على حالتنا المعيشية الصعبة وخسائرنا المالية الناتجة عن التحطيب الجائر من قبل المسلحين، هي أمور لا تذكر أمام حزننا وغمنا ونحن نرى الأشجار التي تربينا معها منذ كنا صغاراً والتي كان آباؤنا ورثوها عن أجدادهم وآباء أجدادهم، فمع كل شجرة كانت تقطع من أرضنا كنا نشعر وكأن جزءاً من ماضينا وتاريخنا وذكرياتنا قد قُطع معها”.
وبحسب ما ورد من معلومات عبر مصادر متطابقة من منطقة عفرين، فإن عمليات التحطيب الجائر الذي نفّذه مسلحو فصائل تركيا خلال السنوات الثلاث الماضية، ناهز أكثر من مليون شجرة مثمرة، معظمها أشجار زيتون، إلى جانب عدد كبير من الأشجار الحراجية، ليصل الرقم الإجمالي للأشجار التي تعرضت لـ “التحطيب” إلى ما يقارب مليون وثلاثمئة ألف شجرة متنوعة، بيعت النسبة الأكبر من أخشابها في سوق منطقة “إعزاز” المجاورة كونها الأكثر ثقلاً اقتصادياً بين مناطق سيطرة المسلحين، فيما يتم توزيع باقي الأخشاب إما للبيع في المناطق الأخرى كالباب وجرابلس، أو للتوزيع على نقاط المسلحين ومقراتهم لتشغيل مدافئ الحطب الخاصة بهم.
ولم تقتصر عمليات “التحطيب” على منطقة محددة دون أخرى في عفرين، حيث شملت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في مختلف البلدات والقرى التابعة لها من “بلبل” شمالاً إلى “جنديرس” جنوباً، ومن “شران” شرقاً إلى “شيخ الحديد” غرباً، مروراً ببلدتي “معبطلي” و”راجو”، ومحيط عفرين المدينة.
كما أن “التحطيب” لم يعد أمراً محتكراً على فصل الشتاء، فالمعلومات الواردة من عفرين لـ “أثر”، أوضحت بأن قياديي الفصائل التابعة لتركيا، أقاموا مستودعات مخصصة لأخشاب الأشجار التي يتم “تحطيبها” خلال فصل الصيف أيضاً، لتجميعها ضمن تلك المستودعات ومن ثم بيعها مع دخول موجة البرد المترافقة مع الشتاء، بأسعار مضاعفة، بهدف تحقيق مكاسب وأرباح إضافية لأولئك القياديين، والذين يوزعون نسبة من أرباح تلك العملية على عناصر فصائلهم.
وتعتبر منطقة عفرين في ريف حلب الشمالي، من أهم المناطق الزراعية في الشمال السوري بشكل عام، وتتميز بإنتاج أفضل أنواع الزيتون التي تؤدي بالنتيجة إلى إنتاج أفخر أنواع زيت الزيتون الصافي، ولطالما وصل صيت “الزيت العفريني” المتميز إلى مختلف المحافظات السورية وحتى إلى دول الجوار، مع الإشارة إلى أن منطقة عفرين بمفردها تضم نحو /50%/ من إجمالي مساحة أراضي الزيتون في محافظة حلب، وفق ما كان بيّنه المهندس رضوان حرصوني مدير مديرية زراعة حلب لـ “أثر” في وقت سابق.
وكانت القوات التركية والفصائل التابعة لها، تمكنت من السيطرة على منطقة عفرين في العام /2018/، إبان العملية التي أسمتها أنقرة آنذاك بـ “غصن الزيتون”، والتي كانت بدأت في الشهر العام من ذلك العام، قبل أن تنتهي في 18/ آذار من العام ذاته، باجتياح الأتراك ومسلحيهم للمنطقة وسيطرتهم عليها بشكل شبه كامل، بعد معارك عنيفة مع “الوحدات الكردية” التي انسحبت من المنطقة لاحقاً تحت وطأة المعارك مع القوات التركية.
زاهر طحان – حلب