خاص|| أثر برس منذ أيام، أكملت الحرب السورية عامها العاشر، وكما هي العادة سنوياً، فإن الذكرى الأليمة تتحول إلى مناسبة عالمية “تعج” بالأرقام والبيانات الإحصائية، التي يحاول أصحابها، أفراداً ومؤسسات، التعريف بهول الكارثة الإنسانية والاقتصادية التي حلت بهذا البلد، لكن في حالات قليلة كانت هناك محاولات لقراءة الحرب من منظور مختلف، كأن يتم مثلاً اعتماد السيناريو الاستمراري للحرب في تقدير حجم الخسائر التي ستحلق بما تبقى من سوريا خلال السنوات الخمس القادمة، أو حجم الخسائر الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن تتجنبها البلاد فيما لو توقفت الحرب اليوم.
يأتي الإنفاق العسكري في صدارة الخسائر المتوقع زيادتها في حال استمرت الحرب، لتكون خسارة البلاد في هذا المجال مضاعفة، فمن جهة هناك مبالغ هائلة لا تزال تخرج سنوياً من الميدان التنموي لتصب في خدمة الحرب ومعاركها، ومن جهة ثانية فإن الخسارة الحقيقية ليست في قيمة ما تم إنفاقه من مبالغ في هذا الجانب فقط، وإنما في الأثر الاقتصادي والاجتماعي الناجم عن المعارك التي جرى تمويلها بذلك المال.
*38 مليار دولار!
مقابل الكم الهائل من المعلومات المتداولة إعلامياً عن حجم التمويل الخارجي في الحرب السورية، فإن الدراسات والأبحاث العلمية، التي حاولت تقفي أثر حجم الإنفاق العسكري كانت قليلة جداً، أبرزها ما كان المركز السوري لبحوث السياسات قد عمل عليه وأشار إليه في تقاريره السنوية حول حجم الخسائر الاقتصادية والاجتماعية للأزمة السورية، وكذلك جهود بعض المراكز العربية والغربية التي اهتمت بمحاولة تتبع مصادر تمويل الجماعات الجهادية كتنظيم “داعش” وجبهة “النصرة” وغيرهما.
يصنف المركز السوري لبحوث السياسات الزيادة في الإنفاق العسكري على أنها جزء من الناتج المحلي الإجمالي الفعلي، ولذلك فهو يعتبرها بمنزلة خسارة اقتصادية وإعادة تخصيص للموارد من الأنشطة المنتجة إلى الأنشطة الهدامة. ويقدر الزيادة في قيمة الإنفاق العسكري للحكومة بحوالي 24 مليار دولار خلال الفترة الممتدة من العام 2011 ولغاية العام 2019، في حين قدر قيمة الإنفاق العسكري للمجموعات المسلحة بحوالي 13.8 مليار دولار خلال الفترة نفسها. أي أن المعارك التي شهدتها سوريا خلال السنوات التسع الأولى من عمر الحرب، تطلبت من جميع الأطراف إنفاق أكثر من 37.8 مليار دولار.
وبحسب بيانات المركز، فإن أكبر زيادة في الإنفاق العسكري للحكومة سجلت في العامين 2012 و2013، حيث بلغت على التوالي حوالي 4.2 مليارات دولار، و3.9 مليارات دولار. أما الإنفاق العسكري للمجموعات المسلحة، فقد سجل أعلى إنفاق لها في العامين 2014 و2015 وبلغ فيهما على التوالي حوالي 2.3 مليار دولار، و2.4 مليار دولار. وهذه تقديرات تبدو منطقية، إذا ما تمت مقارنتها مع نتائج الدراسات والأبحاث والمعلومات المتعلقة بتتبع مصادر تمويل بعض التنظيمات الهامة مثل “داعش”، فأحد المسؤولين عن التنظيم كان أوضح بعد اعتقاله في العراق أن ميزانية التنظيم وصلت في العام 2015 لأكثر من 200 مليون دولار، وأنه من بيع النفط السوري والعراقي تمكن التنظيم خلال فترة ما من جمع أكثر من 400 مليون دولار، هذا في الوقت الذي تؤكد فيه الأمم المتحدة أن التنظيم، وإن كان قد مني بهزيمة عسكرية واسعة في كل من سوريا والعراق، إلا أنه لايزال يملك احتياطياً نقدياً تتجاوز قيمته 100 مليون دولار، وهو ما يمكنه من استمرار تمويل عملياته.
ومع انتقال السيطرة على حقول النفط في المنطقة الشرقية إلى مجموعات “قسد” المدعومة أمريكياً، فإن التقديرات المتعلقة بالكميات النفطية التي تنتجها حالياً “قسد” من الحقول الخاضعة لسيطرتها، تتباين في ضوء غياب أي بيانات صادرة عن “الإدارة الذاتية”، إنما جميع التقديرات تتراوح ما بين 80-100 ألف برميل، يتم بيع جزء منه لكردستان العراق عبر أسطول من السيارات الشاحنات. وهناك حديث غير مؤكد عن وجود أنبوب لنقل النفط بين المنطقتين. كما ويتم بيع جزء آخر إلى مناطق سيطرة المجموعات المسلحة المعارضة في الشمال. وهناك كميات يجري توريدها إلى مناطق سيطرة الحكومة السورية عبر شركات ووسطاء تجاريين، والجزء الثالث يستخدم لتلبية احتياجات المناطق الخاضعة لسيطرتها عبر تكريرها في أكثر من 200 مصفاة كهربائية اشترتها الإدارة الذاتية، وعشرات المصافي البدائية.
*مصادر كثيرة!
لا يقف الأمر عند ما تم إنفاقه عسكرياً خلال سنوات الحرب، فالجانب الآخر من الملف، والمتعلق بمصادر تمويل ذلك الإنفاق، يكتسب الأهمية نفسها وربما أكثر. خاصة وأن المجموعات المسلحة اعتمدت على أكثر من مصدر لتمويل أنشطتها العسكرية، منها ما هو خارجي، وهذا لم يعد سراً مع إقرار حكومات عدة بتقديم دعم عسكري ومالي لمجموعات مختلفة من “المعارضة” تحت حجج مختلفة، ومنها ما هو داخلي، وهذا هو الأهم. وبحسب ما يذكر هامس عدنان زريق مدير مركز دمشق للدراسات والأبحاث، فإن “مهمة تقفي مصادر تمويل المجموعات المسلحة “المعارضة” للدولة السورية والمعارضة الخارجية تبدو سهلةً للغاية، نظراً لكثرة المصادر الإعلامية التي تحدثت عن ذلك، سيما في السنوات الأخيرة التي رأينا فيها بعض “الشفافية” في لقاءات ومقابلات وتحقيقات صحفية لمسؤولين رسميين وغيرهم؛ إلا إن ذلك لا يتعدى، رغم حجمه الكبير المؤثر، الحديث عن تمويل خارجي مباشر ومساعدات لوجستية من الولايات المتحدة ودول الخليج وتركيا وتسهيل وصول هذا التمويل عبر تركيا ولبنان والأردن في الدرجة الأولى. ولكن التتبع الدقيق في هذا الشأن، يمكن أن يذهب بنا في اتجاهات إضافية لا تقل أهميةً عن ذلك، فالتمويل تعقبه تفاعلات اقتصادية وتراكم رأسمال كبير أصبح بدوره مصدراً مهماً كذلك”.
ويضيف في حديث لـ “آثر برس” : إنه بالفعل ما يمكن تسميته “اقتصاد الحرب”، والذي أصبح وجهاً رئيساً من وجوه الاقتصاد السوري في هذه الحرب، إذ إن المجموعات المسلحة استطاعت خلال هذه الحرب السيطرة نسبياً على مناطق جغرافية واسعة وبعض مراكز المدن، مما أتاح وجود أعمال اقتصادية مربحة مشروعة وغير مشروعة داخل المناطق التي سيطرت عليها ومع مناطق سيطرة الدولة أيضاً. وربما كان المثال الأوضح في ذلك، قوات قسد التي تسيطر على الثروات الطبيعية الزراعية والمعدنية لأكبر مساحات سورية المنتجة في الشرق السوري، مما يعد مصدراً هائلاً في وجود الدعم الأمريكي والحماية المباشرة، كما المعابر التجارية المفتوحة مع تركيا في الشمال والأردن في الجنوب التي ساهمت في تعزيز مصادر التمويل ونشاطات هذه المجموعات”.
يمكن، وبناء على الدراسات والتحقيقات الاستقصائية التي أجريت على مدار سنوات الحرب، تصنيف مصادر التمويل الداخلية التي اعتمدت عليها المجموعات أو الفصائل المسلحة في ثلاث خانات رئيسية هي:
-الإيرادات المتأتية من عملية استثمار الموارد والثروات الوطنية التي تم وضع اليد عليها، ويأتي في مقدمة تلك الموارد الثروة النفطية التي تنقل استثمارها بين مجموعات مختلفة إلى أن أصبحت بيد الفصيل الأقوى تنظيم “داعش”، ثم مجموعات “قسد” المدعومة أمريكياً بدءاً من العام 2017. وتشير تقديرات المركز السوري لبحوث السياسات إلى أن إيرادات النفط للقوى غير الدولاتية بلغت مع نهاية العام 2019 حوالي 3.1 مليارات دولار، أما خسارة البلاد من الثروات (احتياطيات النفط والغاز) فقد بلغت بنهاية العام التاسع للحرب حوالي 9.9 مليارات دولار.
-الإيرادات الواردة من عمليات النهب والسرقة للثروات والمنشآت العامة والخاصة والمتاجرة بالقطع الأثرية، وإلى الآن ليست هناك تقديرات أولية حول حجم الأموال التي تم جمعها من هذه الأعمال غير المشروعة، لكن في واقع الأمر هي تتباين بين مجموعة وأخرى تبعاً للمناطق الخاضعة لسيطرة كل منها وما تحتويه من ثروات وكتوز طبيعية وأثرية واقتصادية. ويكفي القول مثلاً إن هناك مئات المواقع الأثرية التي خضعت للتنقيب العشوائي وعمليات النهب والسرقة، بدليل آلاف القطع الأثرية التي تؤكد المنظمات الدولية المختصة أنها جرى تهريبها إلى خارج سوريا وتباع في السوق السوداء العالمية. وهنا يشير الباحث زريق إلى “نقطة أخيرة يمكن إيرادها، تتعلق بالعمل العسكري المباشر في الداخل السوري، إذ لا يخفى على أحد أن المجموعات المسلحة استطاعت في السنين الأولى للحرب من السيطرة على العديد من مخازن الأسلحة الخاصة بالجيش السوري ومنها مخازن السلاح الثقيل، ناهيك عن بعض الانشقاقات، على صغرها، في صفوف الجيش التي أدت لتسليم المجموعات المسلحة عتاداً عسكرياً لا بأس به”.
-الإيرادات التي كان يتم تحصيلها جراء الرسوم والغرامات والأتاوات التي فرضت على الأنشطة والأعمال الاقتصادية، فضلاً عن عائدات عمليات التهريب والمتاجرة بالمواد المخدرة والمشتقات النفطية وغيرها، وأكثر من برع في هذا الجانب هو تنظيم “داعش” الذي أقر نظاماً خاصاً من الرسوم والضرائب تحت تسميات متنوعة ألبسها لباس الشريعة الإسلامية.
*ويستمر!
حتى وإن توقفت الحرب، فإن جزءاً من التمويل الخارجي سيبقى حاضراً تحقيقاً لمصالح متنوعة لبعض الدول والحكومات في سوريا، وربما واقع الفصائل المسلحة المتواجدة في إدلب يؤكد ذلك، إذ رغم افتقادها لمعظم مصادر إيراداتها المعروفة والمذكورة سابقاً، إلا أنها لا تزال قادرة على تمويل أنشطتها وعملياتها العسكرية و”بسخاء”، وهو ما يطرح تساؤلات عن مصادر ذلك التمويل. لكن عموماً فإن توقف الحرب وإيجاد حل سياسي للأزمة المستعصية، سيحد كثيراً من الإنفاق العسكري، وتالياً فإن المستفيد يفترض أن يكون الميدان التنموي، حيث هناك عمل كثير بعد سنوات تخريب وتدمير لم يشهدها العالم من قبل.
زياد غصن