خاص || أثر برس خلال العقدين الأخيرين، ومنذ أن تغلغل المحافظون الجدد إلى قيادة الإدارة الأمريكية مع وصول جورج بوش الابن إلى الرئاسة، سعى البنتاغون إلى تنفيذ مخطط إعادة تقسيم الشرق الأوسط الكبير، بهدف تحقيق السيطرة الأخيرة، تكريساً لزعامة القطب الأمريكي الواحد على العالم، وهذا ما اتبعه دونالد رامسفيلد من خلال تدمير هياكل الدول بدءاً من أفغانستان، ومروراً بالعراق، لتشتعل حرائق الشرق الأوسط الكبير فيما بعد مع بداية الولادة لما سمّي بـ “الربيع العربي”، الذي لم يأتِ من قبيل المصادفة أبداً.
كان الشرق الأوسط بسبب موقعه الاستراتيجي المتوسط لقارات العالم، ساحة للصراع، عانت شعوبه من ويلات الحروب والاستعمار عبر التاريخ، والاستراتيجية هي كلمة يونانية أصلها “استراتيجوس” أي القائد العسكري ذو الأهمية الكبيرة، ومع اكتشاف النفط اشتدت الأزمات والصراعات للسيطرة على منابعه، فاحتياطي النفط فيه يقدّر بـ 66% من الاحتياطي العالمي، وبعد انتصار الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، استغلت ضعف السوفييت لتقوم بإنشاء قواعدها العسكرية على امتداد خارطة الشرق الأوسط.
منذ ترشّح دونالد ترامب لانتخابات الرئاسة الأمريكية، هاجم في معظم حملاته “الراديكاليين”، وعندما بات رئيساً للولايات المتحدة ظهرت التخبطات والخلافات الفعلية للإدارة الأمريكية، حيث إن باراك أوباما الذي نشأت “داعش” في كنفه، وأطلقها لتغزوا الأراضي العراقية والسورية بتمويل أمريكي – خليجي، تخلّى ترامب عنها لتواجه مصيرها أمام تقدم الجيشين العراقي والسوري بمساعدة حلفائهما، إلاّ أن الدولة العميقة في أمريكا لم تسمح بالقضاء على التنظيم نهائياً، لأن الغاية الأمريكية في المنطقة هي استمرار الفوضى.
وأخيراً فإن ترامب ليس مفرطاً في حبه لمكافحة إرهاب “الجهاديين” الذين تم الاعتماد عليهم دائماً في قلب إثارة الفوضى وقلب بعض أنظمة الحكم في دول الشرق الأوسط، لكنه رجل المال الذي يريد السيطرة التجارية دون شنّ الحروب العسكرية، فألغى الاتفاق النووي مع إيران رغم جهود أكثر من سنتين من العمل المستمر والتفاوض لإبرامه، وأقرّ “قانون قيصر” لتطبيق العقوبات الاقتصادية على سورية ومن يتعامل معها، ولطالما أن الرئيس السوري بشار الأسد أكد أن عملية إعادة إعمار ما دمرته الحرب في سورية لن تشارك فيها أمريكا أو أي أحد من شارك بالحرب عليها.
يشهد الشرق الأوسط اليوم قمة الحرب الأمريكية – الصينية من جهة، والحرب الأمريكية – الروسية من جهة أخرى، وإن كانت تمثل روسيا خطراً عسكرياً، وتمدداً يهدد النفوذ الأمريكي، فإن المعركة التجارية مع الصين ليست أقل خطورةً بالنسبة للأمريكيين، وما بين هذه الاشتباكات ثمّة انقسامات جديدة تظهر، وأخرى في طريقها إلى الظهور رسمتها تغييرات المنطقة، وأرست معادلاتٍ جديدة في سورية، ولبنان، واليمن، وليبيا على وجه الخصوص، لتتداخل المشاهد ببروز مفاعيل إقليمية تمثلها إيران وتركيا، وانطواء قوى أخرى على رأسها السعودية لحساب الصعود الإماراتي.
لذا من الواضح أن أمريكا أطلقت يد الإمارات في المنطقة كحليف وبديل عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وذلك لأسباب متعددة، لكن في الوقت نفسه إن ما يجمع القطبان الخليجيان أكبر مما يفرقهما، وهو العداء لتركيا.
لقد خسر محمد بن سلمان السياسة والمال والحرب معاً، فأسعار النفط انخفضت، ولم يستطع تحقيق أي إنجاز له في اليمن سوى الخسارة، وهو في ورطة بعد قتل الخاشقجي في أنقرة، وتلاحقه لعنة الأوروبيين بسبب اعتقاله وتعذيبه لمعارضيه، على عكس الإمارات التي نجحت باحتلال عدن والسيطرة على منفذ البحر الأحمر الجنوبي، بالإضافة إلى جزيرة سوقطرى بمساعدة البريطانيين، وهي ترفع شعار التطبيع مع “إسرائيل” إلى أبعد مستوى، وفي المحصلة بات اليمن منقسماً إلى شمالي وجنوبي بفعل الرغبة الأمريكية.
وفي ليبيا لا تزال الولايات المتحدة، التي تقف موقف المراقب للنزاع، غير ملتزمة بالعمل الجاد لإنهاء الحرب الأهلية في ليبيا، أو دعم جهود مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا غسان سلامة، والذي يدعو بشكل متواصل إلى ضرورة ممارسة المجتمع الدولي لفرض وقف فوري لإطلاق النار بإشراف الأمم المتحدة ودعم المجتمع الدولي.
أما المشهد السوري أكثر تعقيداً بالنسبة للأمريكيين، ولعلّ تصريحات المبعوث جيمس جيفري المتناقضة تدل على ذلك، فهو تارة يقول إنه يجب على الرئيس السوري الرحيل، وتارة أخرى يؤكد أن على الحكومة السورية أن تغير مواقفها في المنطقة، لكنّ الأمر المؤكد هو أن العقوبات الأمريكية الأخيرة جاءت للضغط على دمشق لعدة أهداف أهمها الضغط على الدولة السورية اقتصادياً من أجل تغيير تحالفاتها وخصوصاً بعد الانجازات الميدانية الكبيرة التي حققها الجيش السوري على مستوى الجغرافية، والتي أفشلت المخطط الأمريكي التقسيمي في المنطقة والذي كان أبرزها القبول بإنشاء فيدرالية شمال شرقي سورية على غرار العراق، وهذا مالم يقبل به الرئيس الأسد من منطلق وواجب دستوري قبل أي شيء، إضافة إلى سعي واشنطن إلى ضمان أمن الكيان الاسرائيلي في المنطقة من خلال تغيير سياسة الدولة السورية تجاه القوى المقاومة لهذا الكيان.
وقد تناول هذا الموضوع وزير الخارجية السوري وليد المعلم في حديث له حول قانون “قيصر” حيث قال “ما تريده واشنطن من سوريا هو التخلي عن حلفائنا، والتخلي عن المقاومة والقبول بالمخططات الإسرائيلية وعلى رأسها صفقة القرن”.
الوزير المعلم سفير سابق لسورية في واشنطن لمدة طويلة وهو يعلم الخداع الأمريكي جيداً، ولاسيما أن الأنظار تتوجه إلى السفيرة الأمريكية دوروثي شيا في بيروت، وقيامها بإثارة الفتن بين اللبنانيين بشكل معلن.
إن الحصار المزدوج الذي يفرضه الأمريكيون على سورية ولبنان، والذي أدى إلى انخفاض القيمة الشرائية للعملة الوطنية، وإلى سوء الحالة المعيشية لن يدفع بكل الأحوال إلى حرب قبل أن تُغلق كل أبواب التفاوض، فالأمريكيون أكثر خوفاً على “إسرائيل” التي تتعايش برئيسي وزراء في حكومتها، كأول ظاهرة في العالم لم تحصل من قبل.
ويبقى الأمريكيون في كل ما يحدث يقفون في وجه كل استقرار ينهي فوضى السنوات العشر الأخيرة في المنطقة، وهم يقطعون على الصينيين أيضاً المُضي في مبادرة الحزام والطريق من موانئ طهران إلى السواحل السورية شمالاً، لجعلها تمر جنوباً عبر قناة السويس وبالتالي تحت أنظار حلف الناتو.
علي أصفهاني