خاص|| أثر برس كان هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 في غزة مفاجئاً، وملغزاً وغير مفهوم لكثيرين في حول العالم. وبالنظر إلى المشهد في الإقليم، بما في ذلك موقف وموقع حركة حماس، لم يكن الحدث مُطمئناً، ليس لجهة “الفعل”، فهو مُحِقّ ومطلوب، وإنما لجهة “الفاعل”! وهذا الأخير ليس محل ثقة بالنسبة لكثير من السوريين، بسبب ما كان منه (الفاعل) خلال الأزمة السورية.
لكن الأمر يتجاوز ذلك أو هو لا يتوقف على النظر إلى حماس، وثمة أسباب أخرى، منها: الموقف من “أَدينة السياسة” و”التطرف الديني”. والإيمان بأن التحرر من الاستعمار والهيمنة ومواجهة التحديات الكبرى (والصغرى) يجب أن يكون في أفق وطني، في المقام الأول. وأن “أدينة السياسة” كانت رهاناً وورقة غربية في المقام الأول أيضاً، وأمر نجح الغرب في استثماره في نحو واسع في سياساته ورهاناته في الإقليم وعلى مستوى العالم.
كان ثمة شعور للكثيرين في الإقليم، على اختلاف اصطفافاتهم، بأن ما حدث يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 في قطاع غزة، هو نتيجة رهان “لم يُدرس جيداً”، وأن الهجوم “غير مفهوم” أو “غير محدد” الأهداف أو السقوف. وأنه حدث عابر أو قد يُفضي إلى مواجهات لفترة قصيرة، غالباً ما تنتهي إلى أثمان كبيرة وهدنة “غير عادلة”. وأنه ربما كان عبارة عن “رسائل” أكثر منه “فعل مقصود بذاته”. ولا يزال ثمة أسئلة لا مجال للحديث فيها الآن، فضلاً عن التقديرات التي يجب على محلل السياسات أن يأخذها بالاعتبار.
كشف الحدث، وخاصة بعد تدخل “جبهات الإسناد”، وبالأخص بعد دخول “حزب الله” على خط المواجهة، “عداءً” عربياً وإقليمياً مركباً ضد “الحدث الفلسطيني” وضد “إسناده”، خلا استثناءات قليلة جداً. وظهرت “جدران صد” و”سياسات احتواء” بالغة الحدة والقسوة، من قبل عدد من الدول العربية، وذلك بذرائع مختلفة، بعضها علني وبعضها مُضْمَر. وثمة أطراف عربية عَدَّت الهجوم المذكور “فعلاً إيرانياً” أكثر منه “فعل فلسطيني”، أراد –من منظورها- “تعطيل” أو “تأجيل” التطبيع مع إسرائيل، وليس ضرب “إسرائيل” أو الانتقام منها.
ولا ينفع هنا السؤال عن مواقف الأطراف لو أن الفعل كان “محض فلسطيني” حقاً، كما لا ينفع سؤالها عما إذا كان ما تقوم “إسرائيل” تجاه فلسطين ولبنان والإقليم ككل … هو فعل “محض إسرائيلي”؟ ذلك أن دوافع العداء للمقاومة قد يكون أكبر من كل الأسئلة! لا يغفل ذلك وجود مبررات تخص الأطراف، ومدارك التهديد-الفرصة لديها تجاه “خط المقاومة”، والتوافق مع أمريكا و”إسرائيل” بهذا الخصوص.
لكن، من حيث المبدأ، لا يمكن أن تقول لشعب تحت الاحتلال: لماذا تقاوم؟ أو لماذا تقاوم الآن؟ أو لماذا تتلقى الدعم من طرف ما لا يعجبك أنت؟ أو لماذا ذهبت المقاومة بعيداً فيما فعلته يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023؟ أو لماذا لم يستأذنك المقاومون في ما فعلوا؟ أو لماذا لا يتوقفون عن مقاومة المحتل، أو يتوقفون عن الرد واستهداف العدو الذي يقتلهم ويقتل الناس في كل لحظة؟ أو لماذا لا يأخذ بالاعتبار مصالحك مع عدوه؟
الواقع أن عدم الثقة بطرف مقاوم، أو الخلاف معه لسبب من الأسباب، لا تعني أن تقف مع العدو. الأصل في القراءة هو: هل من حق الفلسطينيين مقاومة الاحتلال؟ إذا كان الجواب: نعم، فإن لهم الحق -من حيث المبدأ- أن يختاروا الكيفية التي يقاومون بها، وأن يختاروا الزمان والمكان. وإذا كان الجواب: لا، وهذا على ما يبدو هو جواب كثيرين في الإقليم، فإن ثمة حاجة لمراجعة كلية وإعادة التفكير في الظاهرة العربية اليوم!
تقتضي الشهامة والمروءة (!) أن تكون مع “المظلوم” لا مع “الظالم”. هل تجد صعوبة في التمييز بين “المظلوم” و”الظالم” في حدث غزة وفلسطين؟ وتقتضي الشهامة أن “تنصر أخاك مظلوماً”. ومن الطبيعي أن تكون مع فلسطين، من باب إنساني وأخلاقي على الأقل. وهذا لا يعني -بالضرورة- أن يُعلن كل العرب موقفاً مضاداً لـ “إسرائيل”، من المؤكد أن الفلسطينيين لا يطلبون ذلك (أي موقفاً مضاداً لإسرائيل)، وبالقطع هم لا يتوقعوه!
لكن، ألم يكن بإمكان الأطراف العربية، أن تعمل تجاه “حدث غزة”، على طريقة “المُرجِئَة”، أو أن يقفوا في “منزلة بين المنزلتين”. وهذا بالمعنى السياسي وليس الفقهي، بالإذن من الفقهاء ورجال الدين، فيحيلوا الأمر أو “يرجئوه” إلى الله أو إلى “نهاية التاريخ”، وكفى الله المؤمنين شر القتال؟ بالطبع، هذه المقالة لا تدعو لمثل ذلك، إنما تتحدث من باب “المفارقة” و”التبكيت”، إن أمكن التعبير. وربما يسعد المقاومون اليوم بأن يقف كثير من العرب في “منزلة بين المنزلتين”، لا مع المقاومة ولا مع “إسرائيل”!
كانت ردة فعل “إسرائيل” متوقعة. جراح الحدث كبيرة وعميقة جداً، يصعب عليها تحملها. كما يصعب عليها تدبيرها أو التوصل إلى هدنة مديدة أو حلول أو تسويات تبدو فيها منكسرة أو أقل قوة. أُصيبت “إسرائيل” في عِلَّة وجودها، إن أمكن التعبير. ومن الصعب أن تدخل في تسوية بمحض إرادتها. هذا يفسر الاعتداءات والتدمير والقتل الوحشي الذي تقوم به ضد أعدائها الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم.
ما يحدث هو أن العالم كله تقريباً، خلا استثناءات قليلة، دخل في “تواطؤ موضوعي” مع إسرائيل، وأكثره “تواطؤ صريح”. قد لا يكون الكل راضياً عما تفعله، أعني بذلك الصامتين وحتى المتضامنين، لكنه غير راض بالمرة عن هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. يتعاطف البعض مع الناس، لكنه لا يتعاطف مع المقاومة. كثيرون احتجوا على “نمط” و”حجم” العنف والقتل من قبل “إسرائيل”، وليس على مبدأ العنف والقتل بذاته من قبل “إسرائيل”. وبالطبع العالم لم يتعاطف مع العنف (وهو عنف من النوع الصغير وحتى الرمزي، مقارنة بعنف “إسرائيل”) بوصفه السبيل للدفاع عن النفس ومقاومة المحتل. وهكذا، فإن كثيرين تعاطفوا مع الفلسطينيين بوصفهم ضحايا عدوان مفرط في وحشيته، وليس بوصفهم شعب يريد أن يتحرر من الاحتلال. ثمة فروق مهمة هنا، يجب إيلاؤها المزيد من الاهتمام.
أرادت المقاومة في غزة أن تفعل شيئاً في مسار الصراع مع “إسرائيل”، وقد فعلت. وما حدث هو أنها لا تلعب بمفردها، الساحة فيها لاعبون كثر، وثمة فروق كبيرة بين طرفي الحدث، من حيث الموارد والإمكانات. وذهبت التطورات أبعد مما كان متوقعاً. ولم تتوقع ردود الفعل وحجم الاصطفاف المناهض لها. هذا يظهر أن حجم “اللا متوقع” في السياسات كبير جداً، وأحياناً ما يتجاوز قدرة الأطراف على تدبيره أو الإمساك به.
أعاد حدث غزة أعاد تأكيد بداهات الصراع مع “إسرائيل”، وهي بداهات ثمة من حاول إعطابها أو تدميرها بالهيمنة والخداع والتضليل والقوة. وكشفت تطورات ما بعد الحدث حجم الاختراق والتغلغل الإسرائيلي والغربي المهول في الإقليم، وإلى أي حد يمكن لفواعل في الإقليم (والعالم) أن تذهب بعيداً في “تَمَثُّل” و”استبطان” ما تريده “إسرائيل” ضد خصومها.لعل الأهم فيما يحدث، أنه فَتَحَ “باب الإمكان” في سياسات الإقليم، على أفق واسع وخطر. لا شك أن الأثمان كبيرة، والمخاطر عالية، لكنها جزء من متطلبات الوجود في صراع كبير وطويل ومعقد، ومن المؤكد أن لا نهاية قريبة له.
الدكتور عقيل سعيد محفوض