خاص|| أثر برس كل حرب تحدث لا يعود العالم كما كان قبلها. كل مواجهة بين حزب الله و”إسرائيل”، لا يعود الواقع والإقليم والعالم كما كان. وعلى الرغم من السيولة غير المسبوقة في التفاصيل والأحداث والمواجهات بين الحزب و”إسرائيل”، إلا أن كل حدث يسبغ معانيه ودلالاته على الموقف ككل، ويعيد التفكير فيما كان من المواجهة، وفي راهنها، وبالطبع في مساراتها المحتملة.
والحديث هنا هو عن جبهة الاحتكاك والصراع المباشرة بين الطرفين، أكثر منه الجبهات غير المباشرة في الصراع الإقليمي. ومعروف أن القادة العسكريين والجهاديين في حزب الله الذين استهدفتهم “إسرائيل”، لعبوا أدواراً قيادية وحاسمة في مواجهات وحروب خاضها الحزب خارج لبنان، كما هو الحال في: سوريا والعراق وفلسطين وغيرها.
مع كل مقاوم يُقتل أو يستشهد، يفقد العالم فرداً أو إنساناً في وجوده البيولوجي والاجتماعي والاقتصادي الخ..، ولكنه يكسب فعلاً أو حدثاً أو توقيعاً خاصاً في معنى المقاومة والانتماء وفكرة الوجود السيد الحر. ومع كل استشهاد، لا يعود المشهد كما كان، ثمة أفق دلالي ومعنوي ورمزي مفتوح على التأويلات والتطورات. كما لو أن “الدم” يمثل البعد الأساسي في الواقع اليوم، كما كان البعد الأساسي والتأسيسي في ظاهرة حزب الله وحركات المقاومة ضد الاحتلال.
وبالمقابل، مع كل جندي معادٍ يُقتل أو يتم تحييده، وكل هدف معاد يتم تدميره، يفقد الشر والعدوان والهيمنة والاحتلال والظلم توقيعاً خاصاً به، ويكسب العالم فرصة إضافية في معنى الوجود الإنساني الحر. قد تبدو الفكرة رومانسية أو مؤدلجة أو مخيالية، ولا استخدم هذه الكلمات بمعنى سلبي أو قدحي، لكن بعض التدقيق النابه يُظهرها أكثر عقلانية وواقعية.
قدمت المقاومة ضد “إسرائيل” خلال عدة سنوات، آلاف المقاتلين. وخاضت مواجهات حادة وثقيلة، في بيئة تشهد اصطفافات واستقطابات مركبة ومعقدة، وحيث أكثر الإقليم والعالم في الاصطفاف المقابل أو المعادي لها. وفي لحظة يبدو أن السرديات أو القضايا الكبرى تشغل موقعاً متأخراً نسبياً في جدول اهتمامات الناس، حتى الذين يُفترض أن المقاومة تقاتل من أجلهم!
يموت من يموت، وهو يعلم أن موته لن يعيد الأرض الآن، ولن يكسر العدو بالتمام، لكنه يعلم أن المقاومة من أجل التحرير لا يمكن أن تحقق شيئاً من دون تضحيات. يكاد ذلك يقوم مقام البداهة. وأن نظرة واحدة على مجريات الصراع مع “إسرائيل” تظهر حجم اليقين لدى من يُضحُّون بأنفسهم في سبيل القضايا التي يؤمنون بها.
لدى سارتر فكرة مهمة في هذا الباب، نستعير خط المعنى الرئيس فيها، تقول: إن الوجود يسبق الماهية. لن نذهب بعيداً في فلسفة الموضوع. هنا يكون الفرد وجوداً أو موجوداً، باحتماليات ماهية أو ماهوية لا نهائية أو لا متعينة بالتمام، لكنه عندما يموت من أجل فكرة سامية أو مبدأ وطني أو أخلاقي وإنساني … فإنه يحقق بموته هذا وجوداً فعلياً وماهية حقيقية.
ولا شك، أن ما قامت به المقاومة من الأساس، وحتى مجرد فكرة المقاومة، خلال عدة عقود، خاصة منذ حرب تموز/يوليو 2006، وبالأخص حدث غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 والحرب التي تلته، … من فعلٍ، هَزَّ وجود “إسرائيل” وأثار لديها (ولدى حلفائها) مدارك تهديد غير مسبوقة، ربما منذ إعلانها الكارثي والإجرامي على أرض فلسطين في العام 1948.
لكن، الحرب كسب وخسارة، انتصار وانكسار. ومع كل حدث فيها، صغيراً كان أم كبيراً، تعيد تشكيل الواقع والإقليم والعالم. يحدث ذلك على مستوى الوقائع المادية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لكن الأهم هو ما يحدث على مستوى البنى النفسية والإدراكية العميقة. كل الأحداث مهمة ومؤثرة. قد لا تكون متساوية في الوزن والنوع، إلا أنها تحدث في الأفق نفسه.
وإذ تقوم المقاومة باستهداف متواصل للمواقع العسكرية الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة، في إطار جبهة “إسناد غزة”، أو الرد على الاعتداءات الإسرائيلية. أو تقوم “إسرائيل” باستهداف قياديات أو مواقع عسكرية للمقاومة، فهذا “يعيد تعريف” فكرة أو حالة المقاومة والحرب، ومعناها وحدود قدرتها، وأفق عملها وتضحياتها.
وإذ تملك المقاومة أوراقاً يمكن استخدامها بالمعنى العسكري، إلا أنها تراعي حدوداً غير منظورة، تتمثل في موقف لبنانيين آخرين، حتى لو كانوا في اصطفاف مناهض للمقاومة. هنا لا تدفع المقاومة الأمور إلى المزيد من المواجهة، احتواءً لردود فعل أو أعمال معاكسة من قبل إسرائيل.
هل تدرك “إسرائيل” ذلك؟
الجواب بالقطع هو: نعم. ولعلها تعرف بعمق العديد من منظومات القيم واتجاهات الفهم والمواقف لدى شريحة كبيرة من اللبنانيين. وأن موقف حزب الله بهذا الخصوص، وإدراك “إسرائيل” له، يمثل أحد “العوائق” و”الإكراهات” أمام المقاومة، في توسيع خيارات ومديات الرد على “إسرائيل” وهذا ما تعده “إسرائيل” فرصة.
وبالمقابل، فإن استهداف “إسرائيل” المتكرر للقيادات الجهادية والمواقع العسكرية لحزب الله، “يعيد تعريف” فكرة أو حالة المواجهة بين الطرفين. كل اعتداء إسرائيلي هو اختبار لحدود المواجهة التي تحسبها الأطراف بميزان دقيق. وبعد كل اعتداء توجه “إسرائيل” رسائل -عبر وسطاء- إلى حزب الله تقول: إنها تعمل لردع الحزب عن توسيع العمليات والضربات ضد “إسرائيل” ودفعه لـ “فك الارتباط” مع المقاومة في قطاع غزة. وتقول “إسرائيل” في كل مرة تقريباً: إنها تريد إعادة وضع القرار 1701 على الطاولة، وإعادة تحديد “قواعد الاشتباك”، من أجل ضمان عودة المستوطنيين إلى المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة.
ثمة “إعادة نظر” و”إعادة تشكيل” للموقف داخل “إسرائيل” نفسها. وحدود الحرب مع حزب الله، وأفقها، وإلى أي حد يمكن الانخراط في مواجهة موسعة أو حرب مفتوحة، من الصعب تقدير العائد منها في مقابل الفاقد؟ ولو أن رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو، يدفع نحو حرب أوسع نطاقاً.
لعل المهمة أو الأولوية الرئيسة أمام حزب الله، هي تدبير “الاستجابة المناسبة” لما يحدث بينه وبين “إسرائيل” وتقصي التداخلات والتقاطعات مع مختلف الجبهات والاصطفافات في الإقليم. والبحث في الأسباب العميقة لكل ما يحدث. وكيف أمكن لـ”إسرائيل” أن تحقق كل ذلك الاستهداف. والتضييق، ما أمكن، للفجوة التكنولوجية والاستخباراتية، مع إسرائيل. وقد يكون البحث عن سبل لـ”التحصين الداخلي” هو أولوية الأولويات.
إن الصراع بين حزب الله و”إسرائيل” هو صراع وجود بالفعل. وموقف حزب الله السياسي والجهادي اليوم هو “الأكثر جذرية” في العداء والمواجهة مع المشروع الصهيوني (والغربي) في الإقليم. والحديث هنا لا يقف عند البعد العقدي والجهادي الخاص بالحزب فقط، بل يستند إلى بيئات اجتماعية ونظم قيم وخبرات وتيارات في لبنان والإقليم، تعد إسرائيل مشروعاً استعمارياً، لا يمكن التصالح معه أو القبول به، ولا بد من مواجهته.
في الختام، إن كل حدث أو موقف بين حزب الله و”إسرائيل” هو خبرة مُوَقَّعة بالدماء والتضحيات. وراكم الحزب الكثير من المعارف والخبرات في الصراع مع “إسرائيل” وكل منها كفيل بأن يمثل “نقطة انطلاق” أو “نقطة ارتكاز” لتغيير الواقع. مرة أخرى: في كل مواجهة أو حدث، وكل لحظة تفكير جاد وعميق بما يحدث، لا يعود المشهد كما كان قبلها!
عقيل سعيد محفوض