لست أدري هل الكلام المتكرر عن الحوار بين “الإدارة الذاتية” ودمشق، هو “مبادرات ذاتية” بالفعل، يعني أصحابها ما يقولون، ويتراسلون في الوسائط ويتداولون بعضهم بين بعض، ويراد له أن يصل إلى النتائج المرجوة؟ وهل ثمة أفكار مختلفة لحل الأزمة بين دمشق وكردها؟
لا شك أن الحوار بين دمشق وكردها هو “حاجة وطنية”، ويجب أن يشغل موقعاً ذا أولية في أجندة الأطراف، لكن الحوار _
الذي لم ينقطع في أي لحظة_ يقف أمام إكراهات ثقيلة، ويبدو أنه لم يحقق تقدماً مهماً، ويتعلق بالسياسات اليومية (الإجراءات والتدابير الخدمية، والمعابر…إلخ) أكثر من السياسات الكبرى (الأمن، ومحاربة الإرهاب، والوجود الأمريكي…إلخ).
لمن يتوجه الحوار؟
إذا كانت “الإدارة الذاتية” تطلب في كل مناسبة تدخلاً عربياً، وتعد أي كلام أو مبادرات لها حول دمشق، جزءاً من “خطة أممية” تجاه سوريا، وتعد نفسها حليفاً مثالياً لأمريكا في المنطقة، بتعبير مسؤولين في “الإدارة الذاتية”؛ فمن المُخاطَب إذاً، ولمن يتوجه كلام الحوار والمبادرات للحل؟ وإذا كان كلام الحوار _منظوراً إليه من دمشق_ لا يتضمن جديداً، ولا يلحظ أي شيء بخصوص التحالف بين أصحابه وبين أمريكا، ولا يذكر ممارسات “الإدارة الذاتية” على الأرض التي تسير في “أفق كياني انفصالي”، فما الذي يقدمه لدمشق، وماذا ينتظر منها؟
اللافت أن دمشق لا تقول الكثير مباشرة حيال “خطاب الحوار” أو “المبادرات” التي تطرحها “الإدارة الذاتية” لـ”الحل”، لكنها ربما تقول كل شيء، عندما تتحدث وزارة الخارجية السورية حديثاً متكرراً، في بيانات أو تعليقات، عن نهب أمريكا لـ “النفط والثروات السورية، عبر شمالي العراق إلى تركيا”. وتطالب الولايات المتحدة بـ “وقف دعم الإرهاب والميليشيات الانفصالية، والانسحاب من الأراضي السورية المحتلة فوراً”.
سردية معقدة
تمثل “الإدارة الذاتية” فصلاً من فصول سردية معقدة في الأزمة السورية، ولا سبيل لهذا الفصل من انفصال، ولو أن أمريكا تدفع لذلك، وهي إذ تفعل ما تفعل، فإنها تخاطب مخيالية كيانية وطموحاً أو شبوباً عاطفياً قوموياً ودولتياً لدى الكرد أو على الأقل نزوعاً لـ”اللامركزية” أو “الفدرلة” في سوريا، و”تفخخ” علاقات الكرد مع شعوب ودول الإقليم بمزيد من العنف، الرمزي والمادي.
ولم يكن الحال بين دمشق وكردها صراعياً، على الأقل مقارنة بأوضاع الكرد في دول الإقليم. وقد بدأت الحركية الكردية _خصوصاً حزب الاتحاد الديمقراطي وهو عماد “الإدارة الذاتية” الآن_ في منطقة الجزيرة بدعم من دمشق وحلفائها. وكان ثمة تَفَهُّم كبير نسبياً للمطالب والتطلعات الكردية، إنما في أفق المجتمع والدولة في سوريا، ولو أن ذلك لم يظهر أو يتأطر في وثائق أو أوراق أو خطابات علنية.
ترى دمشق أنه ثمة تداخل أو تماه غريب ومريب بين شريحة من القيادات الكردية (والعربية أيضاً) والولايات المتحدة، بل ثمة ما هو أبعد من ذلك، إذ تبدو بعض فواعل الحركة الكردية والعربية في منطقة الجزيرة، أسيرة رهاناتها الخطرة على واشنطن، لدرجة لم يعد بإمكانها التحرر منها. وإن المطلوب من دمشق وحلفائها استجابة مناسبة بهذا الخصوص.
يبدو أن دمشق تنظر للأوضاع في منطقة الجزيرة بوصفها “نتائج عَرَضية” لتدخلات واختلالات طارئة أو بفعل الحرب، وليست ثمة مقاربة معلنة أو مشروعاً مطروحاً منها للحل أو التسوية. ولو أن بالإمكان تلمس بعض التغيرات في مقاربة المسألة، باتجاه مزيد من “اللا مركزية” و”إدارة التعدد” الاجتماعي والإثني، بما في ذلك الكرد، ذلك أن الكرد جزء حيوي من المجتمع والدولة. ويبدو أن إعادة التفكير في السياسة والدولة والهوية الوطنية تنطلق من الوعي المتزايد بالحاجة إلى مزيد من الاندماج الاجتماعي والقومي واللغوي والثقافي والديني…إلخ
يجب “تحرير” الكرد والعرب وغيرهم في منطقة الجزيرة وغيرها من “الرهان” على الأمريكي، وذلك ليس بخطاب المؤامرة والتأثيم _وهذا ما يحدث عادة، وخصوصاً في الأزمات والحروب_ وإنما بحوار معمق، وطرح مشروع وطني واسع الأفق، متعدد المستويات. وترد في الخطاب الوارد من منطقة الجزيرة بعض النقاط المفيدة، من حيث المبدأ. ثمة تأكيد متكرر للحوار والعمل في أفق مجتمع ودولة سوريين. هذا أمر مهم، شرط ألا ينطلق من منظور حجاجي، وأن يعني أصحابه ما يقولوه، وأن يلتزموا به قولاً وفعلاً.
تغيرات حول سورية
ثمة مؤشرات متزايدة حول تغير المدارك الإقليمية والدولية تجاه سوريا، والتركيز على أولوية الدولة السورية وسيادتها ووحدة أراضيها، وهي أمور ليست “الإدارة الذاتية” إلا موضوعاً لها، ليس الإدارة بنفسها، وإنما الإدارة بما هي إحدى النتائج “غير المقصودة” و”غير المقبولة” بنفسها للأزمة السورية في طورها الجديد.
وكان من المتوقع أن تؤثر التفاهمات الإقليمية، وخاصة بين طهران والرياض، وبعض الانفتاح العربي على دمشق إيجابياً في الصعيد الداخلي، وأن يمكن لدمشق أن تخصص مزيداً من الموارد المادية والمعنوية لمعالجة الأوضاع في منطقة الجزيرة. غير أن التطورات أظهرت صعوبة في تحقيق تقدم مهم أو كاسر للنمط على هذا الصعيد.
كما أن حرب غزة أظهرت أن أمريكا مستعدة لـ”التخفيف” من دعم حلفائها في منطقة الجزيرة حيال الاعتداءات التركية، مقابل سكوت أنقرة أو مجرد تخفيف موقفها حيال الحرب الإسرائيلية ضد غزة. والواقع أن واشنطن أتاحت لأنقرة استهدافات واعتداءات قاسية ومتكررة على مناطق “الإدارة الذاتية” ومراكزها وكوادرها والبنى التحتية والحيوية التي تديرها. ويُفترض أن فواعل “الإدارة الذاتية” و”قسد” يتابعون ويقرؤون ويدركون ما يحدث. وإذا كان ذلك، فمن المفترض أيضاً أن تكون لديهم استجابة مناسبة حياله.
سياسات علاجية
تحدث الرئيس بشار الأسد عن “قابلية محلية” لما يجري في منطقة الجزيرة، وخاصة الوجود الأمريكي. والواقع أن الرئيس الأسد يتجاوز بذلك المقاربة الاعتيادية للأوضاع في شرقي سوريا، التي تركز على الأمريكي والتدخل الخارجي، وتغفل العوامل الأخرى أو تخفف منها.
يحيل حديث الرئيس الأسد إلى واقع اجتماعي واقتصادي وثقافي مختلف، لا بد من أخذه بالاعتبار. وهذا هو الشرط الاجتماعي أو المحلي الرئيس للوجود الأمريكي، وهو إذ يأخذه بالاعتبار، فإنه يعده “حالة مرضية” و”خروجاً” عن السياق الوطني، أي مقولات الوطنية والهوية والانتماء، كما كانت ترد في الخطاب السياسي والثقافي ومنظومات القيم المعلنة والمعبر عنها على الأقل.
تنظر دمشق إلى ما يجري في منطقة الجزيرة بوصفه “حالة مرضية”، وهكذا فإن المطلوب _من هذا المنظور_ هو تبني “سياسات علاجية المنشأ”. والتعبير المذكور هو استعارة من “علم الأمراض”، ويتعلق الأمر بأمراض جديدة ناتجة عن محاولة علاج مرض ما. وهذا باب فيه كلام كثير. وأن سياسات من هذا النوع تتطلب جهداً مشتركاً وتعاوناً أكيداً ونَفَساً مديداً.
ترى دمشق أن أي تصور لـ”كيانية” في منطقة الجزيرة، تُعلَن من جانب واحد، هو تصور ينتج عن “سوء تقدير” و”خطأ تاريخي”، بتعبير مستعار من باربرا توكمان، ولا بد لفواعل “الإدارة الذاتية” و”قسد” من قراءة الأمور، ليس في ميزان القوى الراهن، وإنما في ميزان المعنى، إن أمكن التعبير، والنظرة الشاملة والأبعاد العميقة واتجاهات الفعل نحو المستقبل. وقد يجد القارئ بعض المؤشرات على ذلك، لكنها قليلة ومترددة وقلقة وتتجاذبها اتجاهات متناقضة.
يبدو التراسل بين الإدارة ودمشق أقرب لـ “خطاب حجاجي”، سياسي وإعلامي، ومحاولة للدخول في سوق المبادرات والأفكار المطروحة حول سوريا، أكثر منه تعبيراً عن توجه جاد لحوار سوري-سوري من أجل حل الأزمة.
وبالتالي فإن المطلوب ليس “خطابات حجاجية”، بل البحث عن “المشتركات الممكنة” بين الطرفين، إن كان لا يزال بالإمكان الحديث عن مشتركات (وأرجو ألا يكون الكلام مشائماً) انطلاقاً من رؤية عميقة ومديدة، ما أمكن، للتحديات والإكراهات التي تواجه سوريا اليوم.
الدكتور عقيل سعيد محفوض