خاص || أثر برس في حضرة رمضان المبارك، تشق الطقوس الرمضانية الموروثة طريقها إلى صدارة المشهد في شهر الخير.. الطقوس كثيرة، والتقاليد المرتبطة برمضان متنوعة تحمل هوية السنين العتيقة والعادات الاجتماعية الأصيلة، التي إن غاب بعضها أو تراجع حضوره، فليس تنازلاً متعمداً عن الموروث وإنما إجبارياً بفعل غلاء المعيشة وتبدّل الأحوال من يسر إلى عسر.
“سكبة رمضان” الطقس الرمضاني الأشهر الذي كان يعطي شرارة الحياة في الحارات القديمة قبيل آذان المغرب بحوالي نصف ساعة تقريباً، بعد جمود منذ ساعات الظهيرة، حيث الروائح الشهية تعبق في الأجواء لتمهّد فتح الأبواب على إيقاع طرق الأطفال بأيديهم الصغيرة التي تحمل “السكبة” وهي صحن من الوجبة الرئيسية التي أعدّتها ربة المنزل وتتبادلها مع جاراتها المقربات وأقاربها الذين يسكنون في الجوار.
وما إن يعطي الطفل “السكبة”، حتى يُطلب منه الانتظار حتى يعود صحنه عامراً بـ”سكبة” أخرى، والتي كانت كسفارة خير ومحبة تطرق الأبواب لتعمّق الود، أو تزيل جفاء حان وقت إقصائه في شهر المحبة.
في الشكر الكريم، تضفي سكبة رمضان على المائدة التنوع، من حيث تعدد الأصناف التي حجزت أماكنها على عجل قبل موعد الآذان، لتجعل مائدة شهر الخير عامرة بأشهى الأكلات المطبوخة بعناية حرصاً من كل سيدة أن تنافس جاراتها في “نفسها الطيب”.
لكن كل شيء تغير، حتى “سكبة رمضان” تراجعت بخجل من سلم الطقوس الرمضانية، على وقع تغيّر النظام العمراني والعيش في أبنية طابقية بدلاً من الحارات العتيقة وتقمّص المثل الشعبي “صباح الخير ياجاري.. أنت بحالك وأنا بحالي”، ناهيك عما فرضه غلاء المعيشة وتردي الواقع الاقتصادي من توفير إلزامي في الطعام الذي بات في معظمه نباتي.
صحيح أن مشهد “السكبة” تراجع بشكل كبير، إلا أنه لم يختفِ تماماً، حيث لا تزال هناك عائلات تحافظ على هذا الموروث الاجتماعي، خاصة بين الجارات المقرّبات والأقارب القاطنين في الجوار، واقتصارها على أيام معدودات في الشهر الكريم.
أم أحمد سيدة ثمانينية تسكن في حي الشاغور بدمشق، تسرح بعيداً وهي تسترجع بذاكرتها المتعبة شريط صور وحكايات كثيرة عن شهر رمضان بعاداته وتقاليده الجميلة، ثم تقول لـ”أثر”: “رزق الله على أيام زمان، كل شيء كان جميلاً وفيه الخير والبركة، حيث كان الغني يشعر بمعاناة الفقير ويساعده قدر المستطاع ليعم الخير على الجميع”، وتضيف: كانت “سكبة رمضان” هي التقليد المحبب للنساء، فعدا عن التنوّع الذي تحصل عليه على مائدتها التي كانت تحتوي “أشكال وألوان” لترضي به جميع أذواق أفراد العائلة، كانت السيدة تشعر أنها في اختبار ويجب أن تفوز به من خلال إعداد الطبخة الرئيسية التي ستعطي منها جاراتها وأقاربها، بمهارة عالية و”نفس طيب” وأن تدعمها بالمكونات الرئيسية بالإضافة لزينة “السكبة” بالمكسرات.
تصمت قليلاً أم أحمد وهي تحاول تحرير الكلمات من قيود الحسرة على الأيام الخوالي، وتضيف: كانت أيام سعيدة، كنت أساعد أمي في إعداد الطعام، وكانت تطلب مني التعلم جيداً منها سر الطبخ على أصوله، وكانت تحكي لي الحكايات عن المبادرات التي كان يقوم بها الأغنياء “الأعيان في الأحياء الشعبية” لمساعدة الفقراء من خلال جمع الأموال من دون ذكر الأسماء ووجهتها حرصاً على مشاعر الفقراء.
وفي غمرة حكاياتها، كانت تحرص دائماً أن أتعلم منها الطبخ جيداً، وأن أحافظ على تقليد سكبة رمضان لأنه جسر محبة وخير يجب ألا ينقطع بين الجيران والأقارب، وتتابع: حرصت كل السنوات الماضية على تبادل “سكبة رمضان” مع جيراني وأقاربي، لكن بفعل غلاء المعيشة وفقر الحال الذي حلّ على الجميع باتت “السكبة” مقتصرة على المقربين جداً وعلى عدد من أيام الشهر الكريم، عندما تكون الأكلة “مدعومة” أو تقليدية متوارثة.
وعلى سيرة الأكلات المتوارثة التي تحاكي البيئة الشامية والتي قد تجعل السكبة مميزة جداً، أشارت أم أحمد إلى “حراء باصبعو”، “ششبرك”، “فتة مكدوس”، “الباشا وعساكره”، “كبة لبنية أو مشوية أو مقلية”، أو نوع من أنواع الحلويات كالرز بحليب، محلاية، مؤكدة أهمية أن تكون الأكلة الرئيسية أول يوم في رمضان مؤلفة من اللبن، لتكون إيذاناً بالبركة المرافقة لشهر الخير.
صفاء علي – أثر برس