خاص|| أثر برس توجّس كثيرٌ من المحللين ومتابعِي الشأن السياسي منذ أن صرّح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في آب الماضي للمرة الأولى عن نوايا أنقرة بمصالحة دمشق بعد أحد عشرَ عاماً من الدعم والتمويل الممنهج للفصائل المسلّحة بأشكالها كافة، لهدف واحد يصب في “إسقاط الحكم في سوريا”، على الرغم من أن التوجّه التركي الفاشي إزاء جارته الجنوبية، كُبحَ جماحه مرغماً في إطار “أستانا” الثلاثي عام 2017، الذي تولّد عنه إنشاء مناطق “خفض التصعيد” بضمانة روسيا وإيران، وتالياً تأكيد وحدة وسلامة الأراضي السوريّة.
مقاربات المصالحة التركيّة – السوريّة
من المفهوم أنه لاعداءٌ مستمرٌ في السياسة، غير أنه يبدو جليّاً أن السياسة التركيّة الخارجية لم تكن تبني منطلقاتها على مصلحة البلاد الوطنية، في ظل وجود البراغماتية الأردوغانية؛ فأردوغان انتقد مراراً مؤسس الجمهورية التركيّة الحديثة كمال أتاتورك معتبراً أن “معاهدة لوزان” الموقّعة عام 1923 هزيمةً تركيّة، ودعا إلى إحياء “الاتّفاق الملّي – 1920”، وهو الميثاق التركي الذي يَعد شمال سوريا والعراق أراضٍ تركيّة، كما أن الرئيس التركي سبق أن أكد في خطاب له السعي في تطبيق مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الأمريكي، فإن إنشاء دويلات متعددة في المنطقة على أسس إثنيّة وعرقيّة يضر أوّلاً بتركيا، نظراً لتركيبة النسيج التركي، وهذا جعل أردوغان ينقلب على حلفائه الأمريكيين جزئيّاً؛ بسبب دعمهم لـ “قوات سوريا الديمقراطية – قسد”، ذراع “حزب العمال الكردستاني – “PKK في سوريا، والتلويح بشن عمليات بريّة واسعة جديدة شمالي سوريا.
يتفق معظم الباحثين في الشأن التركي على أن جنوح أنقرة اتجاه دمشق يصب في الانتخابات الرئاسيّة التركيّة، وأنه يجب على أردوغان أن ينهي مشكلة اللاجئين في المقام الأول؛ ليسدّ الثغرة التي تستخدمها الأحزاب الستة المعارضة ضده في البلاد، بالإضافة إلى أن نحو ثلثي الأتراك يؤيّدون تقارب دمشق وأنقرة، ومن هنا يأتي الارتياب في جديّة أردوغان، وقد يكون السفير الأمريكي السابق في دمشق روبرت فورد من أشدهم ارتياباً، إذ يظن أن مسألة التقارب التي ينشدها أردوغان (مجرّد عملية لابدّ منها)، ويطلب فورد منّا أن نتذكر بأنها عملية فقط!
في المقابل، يرى السفير السوري السابق لدى أنقرة د. نضال قبلان في تصريح لـ “أثر”، أنه إذا كانت الظروف الراهنة والوضع الاقتصادي المتفاقم لتركيا بسبب خسارتها مئات المليارات في السنوات الأخيرة؛ بسبب تورّطها في سوريا وليبيا والعراق وأذربيجان، والضغوط على أردوغان قد دفعته قُبيل الانتخابات إلى التقارب مع سوريا، فإن دمشق لن تعطيه هديةً مجانية لتحقيق أيّ مكاسبٍ قبلها، مؤكداً أنه إذ كان يتصرف مع دمشق كورقة انتخابية عليه أن يدفع الثمن وهو معروف، ولامساومة عليه، وهو الانسحاب من الأراضي السورية، ووقف دعم الجماعات الإرهابية، ومساعدة سوريا على استعادة السيطرة على إدلب والمناطق الأخرى، ومحاربة الإرهاب بجميع أنواعه.
وأوضح آخر سفير سوري لدى أنقرة، أنه قال لوزير الخارجية التركيّة السابق أحمد داود أوغلو: “لا تستطيعون أن تلخّصوا الإرهاب بـ “حزب العمّال الكردستاني” والجماعات المتفرّعة منه، وحصره بمن يحارب مصلحة تركيا فقط؛ علينا أن نتفق على محاربة الإرهاب أياً كان”، مشيراً إلى أنه أمر أساسي وبديهي، إذ من غير الممكن تحقيق الأمن القومي التركي من دون الاتفاق على المحاربة جنباً إلى جنب بين تركيا وسوريا، فأيّ كيان انفصالي في الشمال السوري هو تهديد لسوريا قبل تركيا، لافتاً إلى وجود اتفاق سوري- تركي- عراقي- إيراني على منع قيام أي كيانات انفصالية على أسس عرقيّة أم إثنيّة.
وأضاف قبلان أنه إذا كان التركي يتذرّع بالجماعات الانفصالية الكردية، فإنّ تركيا ترى كل من يعاديها تنظيماً إرهابيّاً، وكذلك لدى دمشق قائمة لا تنتهي من التنظيمات الإرهابية وكثيرٌ منها بتمويل ودعم لوجستي تركي، وعلى تركيا أن تثبت جديتها بالتعاون مع سوريا في محاربة كلّ الجماعات الإرهابيّة، من “جبهة النصرة” إلى “داعش”، حيث أن لتركيا كما سوريا مصلحة في فتح صفحة جديدة نظراً للعوامل الجيوسياسية والتاريخية والاجتماعية والحدود المشتركة بين البلدين التي تزيد على 900 كم، والتي أثبتت الأيام أن لا أحد قادر على حماية هذه الحدود سوى الجيشين السوري والتركي، مؤكداً أن التهديد بعملية عسكرية شمالي سوريا لن يحل الهاجس الأمني لدى تركيا، إذ إن هناك خطر التصادم مع أمريكا وروسيا وسوريا إذا لم يكن هناك تنسيق تام وواضح وجدول زمني وأهداف محددة للعملية العسكرية.
خرق المسار: تركيا بين الأقوال والأفعال
بعد أن اجتمع وزيرَي دفاع تركيا وسوريا ورئيسَي استخباراتهما في موسكو، في 28 كانون الأول الماضي، وتوقّع وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو أن يلتقي مع نظيره السوري فيصل المقداد في منتصف الشهر الحالي، بدا أن المسار الدبلوماسي بين أنقرة ودمشق يتجّه وفق ما خططه الرئيس التركي، أي أن لقاء القمة على مستوى رئيسَي البلدين بات أقرب من أي وقتٍ مضى، غير أنه صدرت إشارات عكست أنه ثمّة شيئ ما اعترض المُضي في خطوات أردوغان المتوقّعة، إذ أكد الرئيس بشار الأسد خريطة المصالحة مع تركيا بدقة بعد لقائه المبعوث الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، قائلاً: “حتى تكون اللقاءات مثمرة، يجب أن تُبنى على تنسيق وتخطيط مسبقَين بين سوريا وروسيا من أجل الوصول إلى الأهداف والنتائج الملموسة التي تريدها سوريا، انطلاقاً من الثوابت والمبادئ الوطنية للدولة والشعب المبنيّة على إنهاء الاحتلال ووقْف دعم الإرهاب”، وجاءت الإشارة الثانية على لسان وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، بعد لقائه نظيره الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، في دمشق، من أنه “لا يمكن عودة العلاقات الطبيعية بين تركيا وسوريا من دون إزالة الاحتلال التركي”.
وتعليقاً على ذلك، قال د. نضال قبلان لـ “أثر”: “لا يمكن أن ينشد أردوغان المصالحة والاستعداد للقاء الرئيس بشار الأسد بعد كل ما قاله عن القيادة السورية لمدة سنوات، وسعى بكل ما يملك ووظّف كل الإمكانيات لإسقاط الحكم وتدمير الدولة السورية، ثم يجري عملاً عدواني ضد الجيش العربي السوري الذي يريده أن يكون شريكاً له في محاربة الإرهاب، لذلك على تركيا أن تغير سلوكها ونهجها وممارساتها إن كانت ترغب في التقارب مع دمشق، إذ ربما لمست القيادة السوريّة عكس ذلك لذلك من الطبيعي أن تتريث دمشق وتكون حذرة من أي خطوة يستغلها التركي لتحقيق مكاسبه ثم ينقلب على سوريا وعلى عملية المصالحة.
وأضاف أن “التصريحات وحدها لاتكفي.. دمشق لا تراوغ ولا تهادن ولا تساوم على مواقفها الذي يتصل بالسيادة على أراضيها وتحرير كل شبر محتل من الأراضي السورية أياً كان المعتدي، وإن أرادت أنقرة تصحيح مواقفها وأخطائها الكارثية فعليها أن تثبت ذلك بالفعل وليس بالقول”.
وعن إعلان المتحدث باسم الرئاسة التركيّة إبراهيم قالن احتمال عقد لقاء جديد بين وزيرَي دفاع البلدين، رأى قبلان أنه قد يكون ممكناً فيما إذا كان حصل اتفاق في الاجتماع الأخير لوزيرَي دفاع البلدين في موسكو على اجتماع جديد، أو أنه قد يكون هناك متطلبات سوريّة من الجانب التركي، وأنقرة تريد التجاوب معها، مضيفاً أن هناك أطرافاً داخلية وخارجية ترفض أي تقارب أو مصالحة بين دمشق وأنقرة، وهناك أطراف لم تلق السلاح بغض النظر عن أي اتفاق تركي – سوري لذلك يجب أن يكون الاتفاق الرئيس بين تركيا وسوريا على سحق الإرهاب بكامل مسمياته.
الحلفاء الضامنون
من الواضح أن هناك شروطاً وظروفاً لم تتوافر حتى الآن في مسار المصالحة التركيّة – السوريّة، على الرغم من أن موسكو وطهران رحبتا بالتطور الحاصل في العلاقات بين أنقرة ودمشق، وهذا أكده وزير الخارجية الإيراني في أثناء زيارته إلى سوريا ولبنان وتركيا في الأيام الماضية، ولكن من غير الممكن أن تثق القيادة السوريّة بالوعود التركيّة ما لم تكن هناك ضمانات حقيقية وعواقب كبيرة جداً في حال عدم وفاء أنقرة بالتزاماتها، ويعزز هذه المخاوف السلوك التركي المستمر، إذ أرسلت تركيا 40 “طائرة مسيّرة – بيرقدار”، وعشرات ناقلات الجند المدّرعة، وأطنان من الذخائر إلى جبهة أوكرانيا ضد روسيا في الوقت الذي توسّل فيه أردوغان إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يتواسط له لدى دمشق، وتالياً لا يمكن الوثوق بصدق أردوغان في التعامل مع “خصومه الصفر”، فأي الضمانات يمكن أن تُلزم أردوغان باتفاقاته مع دمشق في حال حصولها؟
يشير سفير سوريا السابق لدى تركيا إلى أن أردوغان طلب من الإيرانيين ومن الإماراتيين، بالإضافة إلى الروس طبعاً، أن يتواسطوا مع الدولة السوريّة، مؤكداً أنه يمكن أن تكون إيران ضامناً كبيراً ولاعباً أساسياً وفاعلاً للالتزامات بين أنقرة ودمشق إلى مدى كبير؛ لأن إيران إذا قطعت الغاز عن تركيا، فالاقتصاد التركي والثورة الصناعية التي بدأت في تركيا في العقدين الأخيرين جوهرها الحيوي هو إمدادات الغاز التي تحصل عليه بكمية كبيرة من إيران، إذ إن إيران ورقة اقتصادية هائلة ومؤثرة بالإضافة إلى العلاقات التاريخية بين البلدين لاعتبارات عدة، وهو ما يستهجنه أحياناً كثيرٌ من السوريين، لكن الدول تفكر بمنطق الدول وليس الأفراد”.
واعتقد قبلان أنه لن تتم أي مصالحة سوريّة – تركيّة من دون ضمانات روسيّة – إيرانيّة وربما خليجية؛ فدول الخليج قد تكون ضامناً اقتصادياً وإعادة الإعمار لأن دول الخليج غير قادرة على ممارسة ضغط عسكري أو اقتصادي كبير على تركيا، فهي لن تكون ورقة حاسمة في أي تسوية.
ورجّح أن تدعي دمشق وزير الخارجية الإماراتية ليكون ضامناً، وربما حصلت على وعد أن يكون لقاء القمة التركيّة – السوريّة إن حصل في أبو ظبي، مؤكداً أن هذه القراءة عززتها زيارة الشيخ ابن زايد إلى دمشق.
وأشار قبلان إلى أن الأتراك يرغبون في أن يُعقد لقاء القمة في بلد محايد، وفق تصريحاتهم، مستطرداً: “فهل تستجيب موسكو ودمشق لهذه الرغبة؟.. فإن لم تكن أبو ظبي قد تكون طهران”، وتابع: “مع قناعتي أنه في حال موافقة الرئيس بشارالأسد، ليست هناك أي مشكلة في أن يأتي أردوغان إلى دمشق؛ فأردوغان يرغب بذلك لأنه بقناعته سيقنع شريحة كبيرة من الأتراك بأنه هو (تنازل) ويجيّر ذلك في معركته الانتخابية، لكن هذا مستبعد إلى الآن”.
الأمريكيّون على خط مسار أنقرة ودمشق
لا تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية في سوريا سوى “خياراتٍ سياسية محدودة”، وفقاً للتحليلات الأمريكية، ويزداد قلق واشنطن من تقارب دمشق وأنقرة، سيما أن الضغط التركي على حليفته “قسد”، سيؤدي إلى فك ارتباط الأخيرة بواشنطن، من جهة، وسيعطي مكاسب إضافية لروسيا، حيث من المؤكد أن موسكو ستكون الضامن الوحيد، وهو ما سيمثل الخطر على الوجود الأمريكي في سوريا، والتي تسعى واشنطن إلى استدامته، ولذلك يطمح الأمريكيون أن يتوصلوا مع الأتراك إلى حالة من اللاعداء، تجنّبهم التطورات القادمة، ويجاهدون بإقناع الرئيس التركي بإعادة هيكلة “قسد” وإبعادها عن حدود تركيا الجنوبية.
وفي هذا الإطار يؤكد سفير سوريا السابق أنه لا توجد ثقة بين واشنطن وأنقرة أو بين أردوغان وبايدن، وهناك توترات سلبية بين البلدين بخصوص السلاح، غير أن تركيا تبقى دولة عضو في حلف “شمال الأطلسي” الذي تقوده واشنطن، ولا تستطيع أن تنسلخ تماماً عن الغطاء الامريكي، وفي الوقت نفسه لا تثق تركيا بأمريكا وحمايتها، وبتوافق المصالح بين أنقرة وواشنطن في أكثر من ملف.
وعن العلاقات الروسيّة – التركيّة، قال قبلان: إنّ “جوهر السياسة الروسيّة في الآونة الاخيرة تسعى إلى سحب أردوغان من المظلة الأطلسية، كما كان جوهر السياسة السورية في أثناء الحقبة الذهبية مع تركيا سابقاً في سحب التركي من الحضن الإسرائيلي قدر الإمكان”، لافتاً إلى أن روسيا تسعى إلى ربط تركيا بمشاريع استراتيجية جوهرها الغاز مثل مشروع “نورد ستريم”، ومشروع “نوبوكو” الذي كان حفل إطلاقه في أنقرة عام 2010، موضحاً أن جوهر هذا المشروع أن تصبح تركيا نقطة تلاقي خطوط الغاز القادمة من مختلف الدول وربط ذلك بخط الغاز العربي، وتالياً تتحكم تركيا بصنابير الغاز مع أنها دولة غير منتجة للغاز، فتأخذ حصة وعمولة بحكم موقعها الاستراتيجي الرابط بين أوروبا وآسيا.
ويرى سفير سوريا السابق في تركيا، أنه لابد لأنقرة من الاتفاق مع موسكو وطهران لتحقيق هذا الحلم الذي تعتبره أهم إنجاز في تاريخها لأنه سيغير الواقع الاقتصادي والمالي والصناعي ومستوى المعيشة، وهو مشروع طويل الأمد وأرباحه بمئات مليارات الدولارات تعود لتركيا.
مضيفاً: أن “تركيا لا تستطيع أن تنجز حلمها وهي على خلاف مع دول الجوار كلها، وتبقى مشلولة من دون الغاز الروسي والإيراني، وخاصة أن تركيا تستورد 80–85% من احتياجاتها النفطية وكل احتياجاتها الغازية، ويجب عليها خلق أجواء إقليمية مؤاتية، ولا يمكن أن تتوفر من دون أن يعم السلم والأمن في المنطقة، للبدء باستخراج ثرواتها الغازية الهائلة في مياه البحر المتوسط، على ضوء الخلاف على الحدود البحرية والمياه الإقليمية والدولية والمنطقة الاقتصادية بين تركيا وقبرص”.
لابد أن الحرب في أوكرانيا أتاحت لتركيا أن تتخذ سياسةً مختلفة اتجاه الأجندة الأمريكية، ولاسيما بعد أن نجح أردوغان في الآونة الأخيرة ببناء شبكة واسعة من الشراكات، وصيغ التعاون المختلفة مع الصين وروسيا، كما استعاد علاقته مع مصر والسعودية والإمارات، في خطوة يغلب عليها الطابع الاقتصادي، على حين يبقى التقارب مع دمشق هو الأثمن له، وسيتضح ذلك في الأيام المقبلة، أي قبل الموعد المحدد للانتخابات الرئاسيّة التركيّة في حزيران المقبل.
علي أصفهاني