خاص|| أثر برس إذا كان من فضيلة للحرب، على الرغم من كل الأهوال التي نتجت عنها، هي أنها فتحت أبواب السؤال والتفكير حول الظاهرة السورية، بما هي سوريا، ذات وجود ومعنى وتكوين وخصوصية، وليس “مجرد جزء” أو وجود “هامشي” أو “قطري” للظاهرة العربية، مع بعض التكوينات غير العربية، أو “الأمة الإسلامية”، مع بعض التكوينات الدينية غير المسلمة. وبما هي مجتمع ودولة، طبيعة ووجود، ومكانة ودور، وتجاذبات وتفاعلات مع الإقليم والعالم.
في الأسئلة والإجابات!
أعادت الحرب طرح أسئلة كان “مُتَنَكَّر لها” أو “ممنوع التفكير فيها” أو “منسية”، حول المجتمع والدولة، والدين والحداثة والعلمانية، والمشاركة والديمقراطية، والعلاقات الإثنية والدينية، والظاهرة الحزبية، والصراعات العربية، و “إسرائيل” والغرب وغيرها. وشهدت سوريا تراجعاً متزايداً في الحيوية السياسية والفكرية والثقافية، وعزوفاً متزايد أيضاً عن الانهمام بالسياسة والشأن العام.
وكشفت الحرب عن أن ما كان في سوريا من أنماط تفكير وأدلجة، وسرديات كبرى وصغرى، لم تكن هي الإجابات الصحيحة على واقع بالغ التركيب والتعقيد، وبكل تداخلاته وتخارجاته وتطلعاته ورهاناته. أو أن تلك الإجابات أصحبت، بمرور الوقت، وبفعل تطورات كثيرة، أقل كفاءة وعائدية، وبعيدة عن الواقع. وربما أصبحت عائقاً أو قيداً يحول من دون معرفة الواقع وتدبير التحديات والفرص فيه.
لكن هذا بحد ذاته ليس فضيلة أو فرصة، أو ليس محض فضيلة أو محض فرصة. وأن فتح باب السؤال والإمكان، ليس خيراً أو شراً بنفسه، وإنما باستجابات السوريين حياله، وحسن تدبيرهم لما يحدث، وبما يمكن أن تؤول إليه الأمور. وبالتالي فإن كون حدث الحرب فضيلة مشروط بالاستجابات والنتائج البعيدة والعميقة.
أُس التفكير!
يمكن أن تكون الحرب “أساس” أو “أُس التفكير” في الظاهرة السورية اليوم. والحرب هي “أُمّ الأشياء كلها”بتعبير هيرودوت. وهي ملازمة للظاهرة البشرية، و”محركة للتاريخ”، و”تصنع” الأمم والسياسات بقدر ما تدمر أخرى. ولا يمكن فهم سيرة الإنسان ومسيرته من دون الحرب. وقد اختبر السوريون كل أو أكثر أنماط التأثير المعروفة للحرب.
أما لماذا الحرب هي “أُس التفكير” بسوريا، و”أم الظاهرة السورية” اليوم، فلأنها “حدثٌ فاصلٌ” في تاريخها ووجودها، وشكلت صدمة في سوريا والإقليم والعالم، وما بعدها ليس كما قبلها، كما أنها طرحت الظاهرة السورية أمام طيف واسع من أنماط القراءة والتحليل والتفكيك، وفتحتها على تأثيرات وتدخلات وتداخلات وتجاذبات ورهانات وصدوع لا حصر لها تقريباً.
والحرب هي أهم اختبار للظاهرة السورية وفكرة مجتمع ودولة في سوريا، ونجحت في أن تكون كذلك، أي اختباراً وتحدياً، مديداً ومركباً ومعقداً، ومفتوحاً على تطورات من الصعب التنبؤ بها أو تلمس احتمالاتها ومساراتها. في حين لا تزال الاستجابة متأخرة ومتعثرة ولا يقينية، وعلى قدر كبير من السيولة على صعيد الأحداث والتفاصيل، وعلى قدر كبير من الانحباس، على صعيد الحلول والتسويات والخروج من حالة الصراع والمواجهة والأطماع والرهانات الداخلية والخارجية، إلى التوافقات بين السوريين أنفسهم (وبين فواعل الحداث السوري)، وهي (التوافقات) مطلوبة ومرفوضة:
مطلوبة: لأنها شرط لإنهاء الحرب، والتوصل إلى “حل” أو “تسوية”، مؤقتة أو مديدة، والأصل هو “حل” أو “تسوية” شاملة ومستقرة. ومرفوضة، لأنها سوف تمثل نتيجة “متفاوض عليها”، وبالتالي قد تعبر عن رهانات وأولويات الآخرين أكثر مما تعبر عن رهانات وأولويات السوريين، بماهم سوريين وليس بماهم جزء من رهانات وسياسات الآخرين في سوريا.
وهكذا، فإن مدارك السوريين حيال الحرب تتحرك بين مستويين رئيسين: الحاجة لإيقافها، على صعوبة ذلك، بحكم إكراهات وتداخلات وتخارجات الحدث. والخوف من أن تؤدي تلك الإكراهات والتداخلات والتخارجات إلى “حل” أو “تسوية” مشوهة وتفخيخ للمجتمع والدولة.
القابليات والاستعدادات
صحيح ان جانباً مهماً مما حدث منذ العام 2011 كان بتأثير تدفقات المعنى والقوة والهوية والسياسة والمال والسلاح والإعلام من الخارج، لكن الأصل فيه، هو “القابلية” و”الاستعداد الداخلي”. إذ لولا أن الداخل “قابل” للتأثير والتدخل الخارجي، لما أمكن أن تنفجر الأحوال بتلك السهولة واليسر التي حدثت فيها. ولما أمكن للخارج أن يحضر في الحدث بكل تلك القوة وذلك التأثير. وهذه مسألة خلافية غي أي حال.
وتحدث الرئيس بشار الأسد عن جانب من ذلك، في تحليله للأوضاع في خط الفرات ومنطقة الجزيرة السورية. وعد أن الوجود الأمريكي يتكئ إلى “قابلية محلية”، وبالتالي فإن إخراج الأمريكي من المنطقة يكون بإزالة أسباب أو تكئات وقابليات وجوده، وهي ليست مجرد فواعل سياسية موالية له، بل فواعل اجتماعية وقيمية وسياسية وجدت أن لها مصلحة ببقائه، ومنها ما هو مرتهن له. وهذا ينسحب إلى التأثيرات التركية والأمريكية وغيرها في مناطق أخرى من البلاد.
الواقع أن مسألة “القابلية” و”الاستعداد” تكاد تطال الحدث السوري ككل، ليس في لحظته البدئية، أي عام 2011 فحسب، وإنما في لحظاته التالية أيضاً. ولا يزال الحدث السوري قابلاً لأنماط من التدخلات والتأثيرات الخارجية، التي تمثل في جانب منها عوامل “إجهاد” اجتماعي واقتصادي وثقافي وقيمي وبالطبع سياسي، وتَحُولُ -في جانب منها- من دون عودة سلطة الدولة على مناطق من الجغرافية السورية. وعوامل إعاقة أمام إمكان توصل السوريين إلى توافق على طبيعة “الحل” أو “التسوية” بعضهم بين بعض، وبما هم سُوريِّين في أفق مجتمع ودولة سُوريَّين.
حدثٌ كاشفٌ!
كشفت الأزمة ما كان حَدَثَ في الاجتماع السوري والظاهرة السورية خلال عقود عدة، بل منذ التأسيس الدولتي لسوريا في بدايات القرن العشرين، من مشكلات وأزمات واختلالات، وتحولات في نظم القيم واتجاهات التفكير والاصطفاف، “لم يكن مُوعىً بها”، أو “لم يكن مُعترف بها”، والأحرى أنه كان “مُتنكّر لها” و”لا مُفكّر فيها”، وكان لبعض الوقت “ممنوع التفكير فيها”، أي “ممنوع” طرحها صراحة وعلانية في فضاء المعنى في سوريا، إذا أمكن التعبير. والمنع هنا، ليس بمعنى الحظر المباشر فقط، وقد حدث شيء من ذلك، وإنما بمعنى “التقييد” و”الإقصاء” و”الوصم” ومختلف أنواع وألوان الاتهام والتحريم والتجريم بالمعنى الرمزي والقيمي.
وبالتالي، إن ما ظهر في سوريا خلال الأزمة، لم يكن محض نتاج الأزمة، وان العنف والتطييف والفساد، والتأثير الخارجي، واختلال مدارك المعنى والهوية، والانقسام الاجتماعي والسياسي، والانقلاب أو الانقضاض على الدولة (والمجتمع)، لم يبدأ بالتمام في العام 2011، بل إن حدث 2011 كان كاشفاً لذلك، رفع الغطاء عنه، أطلق كل “مكبوتاته” و”عقده”، فَجَّرَ كل عناوينه ومسمياته ومسلماته، ثم إنه عَمَّقَه وزاد فيه أو عليه، كما معروف، وأخذه إلى أبعد بكثير مما يمكن أن يحتمله مجتمع ودولة في مثل حالة سوريا.
“التدمير الذاتي”!
كان الحدث أكبر من قدرة السوريين على تحمله أو التكيف معه، وأكبر من مجرد قدرتهم على فهمه. لا شك أن الحدث كان صادماً، وأنتج الكثير مما كان يصعب مجرد التفكير فيه أو تخيله. وأظهر السوريون استعدادات فائقة للعنف والموت، ونوعاً من “الالتباس الجماعي” في الوعي والتفكير والفعل، و”الهوس الجماعي” في العنف والقتل والتدمير، فيما يشبه “الانتحار” أو “التدمير الذاتي”.
ووصل الأمر ببعض فواعل الحدث أو الحرب، أفراداً وجماعات وتنظيمات، لأنهم عدوا القتل والموت واجباً أو فعلاً مقدساً، وذلك بتأثير تشوهات في القيم الدينية والاجتماعية والثقافية، ولو أن جانباً من ذلك حدث بتأثير تدفقات وتدخلات وتأثيرات من الخارج. وكان الجانب الارتزاقي أساسياً في ذلك، ولو أنه اتخذ -كما سبقت الإشارة- لبوساً دينياً أو قدسياً، إن أمكن التعبير.
“التكاذب الجماعي”
كان الخطاب وفضاء المعنى العلني في سوريا قبل الحرب غارقاً في آفات قاتلة مثل: الفساد، والنفاق، والكسل المعرفي، والشعور الواهم أو المخيالي بفائض المعنى والقوة، والأهم هو حالة من “التكاذب الجماعي”: الاجتماعي والسياسي والديني والثقافي ..إلخ شارك في ذلك فواعل الفكر والاجتماع والدين والسياسة، غافلين أو متجاهلين أو غير واعين لطبيعة البنى والإكراهات القيمية الشقاقية والانقسامية، والصدوع والفجوات الاجتماعية-الاقتصادية، والاستقطاب أو الاختلال المتزايد في الاجتماع السوري والظاهرة السورية، وديناميات التغلغل والاختراق الخارجي، والتي كانت تفعل فعلها بنوع من الديناميات الناعمة ومديدة التأثير.
لم يكن حدث 2011 بين يوم وليلة، كانت هناك أمور حدثت قبل ذلك، جعلته ممكناً، وكان من المفترض بفواعل السياسة والفكر والاجتماع…إلخ أن تقرأ أنماط القيم وتحولاتها، وديناميات التفكير والفعل الاجتماعي والسياسي وتحولاتها واتجاهاتها المحتملة. ولم يظهر الكثير من المحاولات بهذا الخصوص. أو أن المحاولات لم يكن موعى بها بالتمام، أو أن “التكاذب” و”التكاسل” و”التغافل” الاجتماعي حال دون القراءة الموضوعية والحيوية للواقع.
أي فضيلة؟
هل يمثل كل هذا الكشف فضيلة، هل يجب أن نكون ممتنين -بالمعنى القيمي والتاريخي- لما حدث، في خط الفهم والتعبير المذكور أعلاه، وليس فقط في خط العنف والقتل والتدمير؟ ثمة احتمالية فائقة في فهم وتدبير السؤال. وأن المهم في معنى “الفضيلة” و”الامتنان” بشأن الحرب، ليس الحكم بإطلاق على الحرب، وإنما الفهم المفتوح على الواقع وممكناته.
والآن، وبعد كل التفكيك الحاد للظاهرة، ولأنماط الوعي الاستجابة للحدث، ما كشف عنه وما زاد فيه أو عليه، ويبدو أننا نستدرك هنا، فقد أظهر الحدث أن ثمة وعياً به، واستجابة نشطة وحيوية له، وقد قدم كثير من السوريين كل شيء ممكن من أجل وطن أو مدارك وطن، أو صورة مجتمع ودولة في مخيلتهم وأذهانهم، يجب الدفاع عنها، ربما “بما تعد به” وليس “بما هي عليه”.
الدكتور عقيل سعيد محفوض