زياد غصن || أثر برس استسهال الحلول التي من شأنها توفير الإيرادات اللازمة لتمويل إنفاقها، وبغض النظر عما تسببه تلك الحلول من تضخم وغلاء وتدهور اقتصادي، لا تزال هي السمة الرئيسية لعمل هذه الحكومة وطريقة إدارتها للشأن الاقتصادي.
وإذا كانت قرارات زيادة أسعار السلع والخدمات الأساسية في حياة المواطن، المدعومة وغير المدعومة، تمثل نموذجاً واضحاً عن تلك الحلول السهلة والمدمرة، فإن واقع مؤسسات القطاع العام الاقتصادي، والمفترض أن تشكل فوائضها مصدراً رئيسياً لإيرادات الموازنة العامة، تؤكد أن الشعارات التي ترفعها الحكومة ليست سوى محاولة للهروب إلى الأمام في مواجهة الانتقادات المحقة التي تتعرض لها، ولهذا تحرص هذه الحكومة على إخفاء حجم الفوائض الاقتصادية الموردة من قبل مؤسسات القطاع العام الاقتصادي والاستمرار بسياسة تعليق فشلها على شماعة العقوبات والحرب.
في هذه المقالة سوف نستعرض معاً بعضاً من المعلومات التي تجهد الحكومة لإخفائها عن الرأي العام، رغم أن تلك المعلومات قد تساعدها على السبر قدماً بأي مشروع لإصلاح جذري للقطاع العام الاقتصادي (في حال رغبتها بذلك).
إذ بحسب البيانات الواردة في قطع حسابات موازنة العام 2022 فإنه كان من المخطط لفوائض القطاع العام الاقتصادي أن تصل قيمتها إلى حوالي 3934.3 مليار ليرة، لكن عملياً في نهاية ذلك العام لم يتحقق سوى ما قيمته 856.4 مليار ليرة أي ما نسبته حوالي 22% فقط، وهذا يعني واحد من اثنين:
-إما أن مؤسسات القطاع العام الاقتصادي كانت تخطط لتحقيق فوائض مالية وهمية وغير واقعية ولا تتناسب مع إمكانياتها وواقعها، وهذا بالطبع يروق للحكومة التي من مصلحتها تقديم مشروع موازنة توهم من خلاله أن الوضع الاقتصادي يتحسن وأن عجز الموازنة إلى تراجع، لاسيما وأن الحكومة لا تنشر مشروعات قطع الحسابات كما تفعل مع مشروعات الموازنة العامة.
– وإما أن الإجراءات الحكومية من قبيل ترشيد الإنفاق ومنع تنفيذ أي مشروعات استثمارية قبل الحصول على موافقة وزارة المالية أسهمت في تقييد عمل تلك المؤسسات وخططها ومشروعاتها، لاسيما وأن نسبة الفوائض المالية المتحققة في العام 2021 إلى المخطط كانت أعلى بقليل من نسبة العام التالي، حيث وصلت إلى 26%، وهذا على الرغم من الزيادات المتلاحقة التي أقرتها الحكومة على أسعار السلع والخدمات المقدمة من قبل مؤسساتها والرسوم المفروضة.
وتبين قائمة المؤسسات الاقتصادية العامة الموردة للفوائض المالية، سواء المحولة فعلياً للخزينة العامة أم التي استخدمت كتمويل ذاتي، أن المؤسسات العامة الصناعية سجلت نسب تنفيذ متدنية، فمثلاً بلغت النسبة في المؤسسة العامة للأسمنت 14%، المؤسسة العامة للصناعات النسيجية 22%، المؤسسة العامة للصناعات الذاتية 24%، المؤسسة العامة للصناعات الهندسية 42%، المؤسسة العامة للصناعات الكيمائية 22%، المؤسسة العامة للسكر 10%، المؤسسة العامة لحلج وتسويق الأقطان 3%، المؤسسة العامة للتبغ 24%.
مثل هذه النسب تظهر أن الاستمرار في تجاهل أو تأخير أو إهمال عملية إصلاح القطاع العام الصناعي لأي سبب من الأسباب سيعمق من مشكلة تراجع إيرادات الخزينة العامة، فهذه المؤسسات المفترض أن تكون موردة للفوائض المالية للخزينة العامة في مثل هذه الظروف تبدو عاجزة عن تحقيق نسب تنفيذ جيدة أو مقبولة، وحتى المؤسسات الأخرى وبما فيها تلك التي زادت نسب التنفيذ عن 100% فإن تأرجح وضعها بين عام وآخر يؤشر إلى وجود حالة من عدم الاستقرار تعيشها تلك المؤسسات أو حدوث تطورات غير مخطط لها في الموازنة، وهو ما سمح لها بتحقيق نسب عالية من قبيل مؤسسة الطيران المدني التي سجلت نسبة قدرها 14557%، أو المؤسسة العامة لنقل وتوزيع الكهرباء 1153%، أو المؤسسة العامة للمعارض والأسواق الدولية 576%.. وغيرها.
وتعليقاً على هذه البيانات، يبدي أحد الباحثين الاقتصاديين استغرابه “من وجود فوائض، إذ إن غالبية موازنات القطاع العام غير كافية للتشغيل الأمثل، وأرقام إيراداتها هي أرقام تضخمية، وبالتالي لا تتضمن زيادات فعلية، ولذلك إذا كان هناك من فوائض فأتوقع أنها تضخمية على الأغلب”، فجميع المؤسسات العامة زادت من أسعار منتجاتها وخدماتها، الأمر الذي يعني أنه حتى هذه النسب المتدنية هي في الواقع مؤشر غير قابل للشك على دخول العديد من المؤسسات الاقتصادية الحكومية في مرحلة “الموت السريري”.
والسؤال.. هل ستكون الحكومة فعلاً جادة باستثمار بعض الإجراءات الأخيرة للقيام بعملية إعادة هيكلة جذرية للمؤسسات الاقتصادية العامة؟
وفي هذا السياق يحضر القانون الصادر مؤخراً، والمتعلق بإحداث وإدارة وحوكمة الشركات المساهمة العمومية، والذي يشكل مدخلاً مهماً للبدء بإجراءات فعلية لإصلاح القطاع العام، وتحويله من قطاع بات عبئاً على الخزينة العامة والاقتصاد الوطني إلى مورد للإيرادات وداعماً ومنافساً لبيئة الأعمال في البلاد، لكن ثمة مخاوف على هذا القانون من العقلية الحكومية التي أثبتت خلال السنوات الماضية عقمها وجمودها وافتقارها للمقاربات الموضوعية والعلمية.