زياد غصن || أثر برس أيام قليلة، وتكمل حكومة المهندس عرنوس الثانية حوالي ألف يوم على تسلمها مهامها، مدة زمنية ليست قليلة ولا يمكن اعتبارها عابرة في حياة السوريين، بالنظر إلى ما شهدته من تدهور اقتصادي ومعيشي جراء مجموعة من الأسباب والعوامل التي قد تكون هذه الحكومة غير مسؤولة “ظاهرياً” عن حدوث بعضها، إلا أنها فعلياً هي المسؤولية عن تفاقمها وتعاظم تأثيراتها السلبية، إضافة إلى ما تسببت هي بحدوثه.
عادة ما يقاس أثر ذلك التدهور الاقتصادي على حياة الناس من خلال تتبع تطور واقع بعض المؤشرات الكلية والجزئية، والتي من أهمها ما يتعلق بالمتغيرات التي طرأت على ظاهرة الفقر بمختلف تصنيفاتها، وهناك قناعة شعبية ونخبوية أن هذه الظاهرة زادت بين السوريين خلال السنوات الثلاث الأخيرة بنسب كبيرة، اعتماداً على مقاربة بعض المعطيات الحسية من قبيل ارتفاع مستوى الغلاء ومحدودية الدخول أو استناداً إلى ما تنشره وتعلنه بعض المنظمات الأممية العاملة في سوريا لجهة عدد الأشخاص الذين هم بحاجة إلى المساعدة، والرقم الأخير المعلن في هذا السياق يتحدث عن أن هناك 14.5 مليون سوري بحاجة ماسة إلى المساعدة.
رسمياً يمكن التوقف عند حقيقتين: الأولى أن الحكومة الحالية لم تبد أدنى اهتمام بتتبع واقع ظاهرة الفقر واعتماد سياسات وبرامج للحد من انتشارها، فمثلاً لم تعقد هذه الحكومة طيلة فترة تسلمها لمهامها اجتماعاً واحداً خصص لمناقشة واقع الفقر وأبعاده، لا بل أنها لم تكلف نفسها عناء تكليف المؤسسات البحثية المعنية إجراء مسح وطني يوضح خريطة انتشار الفقر ودرجاته بدقة ووضوح ليصار إلى التدخل تنموياً.
أما الحقيقة الثانية فهي في تجاهل الحكومة دراسة أثر معظم سياساتها وإجراءاتها وقراراتها على واقع ظاهرة الفقر، فهي مثلاً في رفعها المستمر لأسعار السلع والخدمات، المدعومة وغير المدعومة، لم تلحظ نهائياً أثر ذلك على تحرك خطوط الفقر الثلاثة المعروفة، لا بل تتعمد إخفاء ذلك كي تستر عيوب سياساتها.
لكن مؤخراً اضطرت الحكومة إلى الإعلان عن بعض تقديراتها الإحصائية المتعلقة بانتشار الفقر في تقرير التنمية، ومع أن ذلك الإعلان جاء محدوداً ومتأخراً لكونه شمل مؤشراً واحداً فقط ولسنوات سابقة، إلا أنه يبقى هاماً ويمكن البناء عليه في تحليل ظاهرة الفقر في عهد هذه الحكومة، إذ بحسب البيانات الرسمية التي حصل عليها “أثر برس” فإن معدل الفقر الشديد سجل في آخر إحصائية رسمية تعود للعام 2021 حوالي 54.5%، في حين أن هذه النسبة لم تكن تتجاوز قبل الحرب حوالي 8.5%، واللافت أنه في ذروة المعارك العسكرية وتدهور الوضع الأمني لم تكن هذه النسبة تتجاوز 18.8% في العام 2015، إنما سرعان ما ارتفعت لتصل إلى حوالي 38.9% في العام 2019 وإلى حوالي 39.9% في العام 2020.
ماذا تعني هذه النسب؟
هناك قراءات مختلفة يمكن استنتاجها من البيانات السابقة، لكنني هنا سأركز على تطور ظاهرة الفقر الشديد بين عامي 2020 و2021، وهي الفترة التي تميزت بحدوث انحسار كبير في المعارك العسكرية، تسلم حكومة جديدة مهام العمل، ودخول البلاد في “أتون” موجات متتالية من التضخم، زاد من توحشها سياسة رفع أسعار السلع والخدمات المدعومة التي اعتمدتها الحكومة الحالية، وبناء على تحليل تلك الفترة يمكن توقع واقع الظاهرة خلال الأعوام التالية 2022 و2023.
إذا عدنا إلى البيانات السكانية المنشورة من قبل المكتب المركزي للإحصاء، سنجد أن تقديرات عدد السكان الموجودين في محافظات البلاد كافة تشير إلى 22.5 مليون نسمة منتصف العام 2020، وحوالي 22.9 مليون نسمة في منتصف العام 2021، لكن ونظراً لوجود مناطق خارج السيطرة في الشمال والشرق من البلاد، سنعتمد على تقديرات عدد السكان المقيمين في مناطق سيطرة الحكومة، والتي يمكن الوصول إليها من خلال عدد البطاقات الأسرية الإلكترونية الموزعة عامي 2020 و2021 والبالغة حوالي 4 ملايين بطاقة، وبناء عليه يمكننا القيام بالعمليات الحسابية التالية:
بناء على تقديرات نسب انتشار معدل الفقر الشديد خلال عامي 2020 و2021، فإن عدد الأسر المصنفة ضمن خانة الفقر الشديد في العام 2020 يقدر بحوالي 1.596 مليون أسرة، وحوالي 2.180 مليون أسرة في العام 2021، وبذلك نستنتج أنه في عام واحد فقط (2021) زاد عدد الأسر السورية التي دخلت في خانة الفقر الشديد بحوالي 584 ألف أسرة، أي ما معدله حوالي 2.744 مليون شخص (متوسط عدد أفراد الأسرة في سوريا 4.7 فرد)، وعليه علينا أن نتوقع كما أصبح ذلك العدد في العامين التاليين 2022 و2023 مع تعمق حالة التدهور في الأوضاع الاقتصادية التي لاتزال تعيشها البلاد جراء عدة عوامل من بينها السياسات الحكومية المدمرة للإنتاج والمولدة للتضخم الجامح، هذا إلى جانب غياب أي سياسات أو برامج حكومية تستهدف التخفيف من حدة انتشار الفقر وتعمقه بين السوريين.
في عام واحد فقط، وهو العام الذي تقاسمت أشهره حكومتا عرنوس الأولى والثانية، شهدت البلاد دخول ما يقل أو يزيد على 2.7 مليون من أبنائها في خانة الفقر الشديد، وهذه خلاصة المقاربة التي أجريناها سابقاً، وإذا كانت لدى الحكومة بوزاراتها ومؤسساتها المعنية وجهة نظر أخرى فنحن بانتظارها.