أثر برس

في ذكرى رحيله: “جبران كورية”… صحفي وكاتم أسرار الكبار

by Athr Press Z

زياد غصن- خاص|| أثر برس

بنظارته السميكة، قامته المتوسطة، وجبهة رأسه العريضة، رسمت شخصية “جبران كورية” في أذهان الكثيرين صورة الصحفي والكاتب السوري المتمرّس والخبير، الذي عاصر تجارب صحفية مختلفة، تنقل بين أزمنة سياسية متصارعة فكرياً وإيديولوجياً. وعاش شغف الصحفي في البحث عن المعلومة ونشرها، وما تفرضه بعض المهام من كتم للأسرار والمعلومات. فمع تسلمه رئاسة المكتب الصحفي في رئاسة الجمهورية، منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى العام 2004، تكشّفت أكثر خبرة الرجل وسماته، وزادت شهرته وعلاقاته، داخل الوسط الصحفي وخارجه، لكنه بقي على وفائه، بشهادة أصدقائه وتلامذته.

 

  • الصحافة باكراً:

 

بُعيد الاستقلال بسنوات قليلة، اختار الشاب “جبران كورية” صاحب العشرين ربيعاً، العمل في أروقة الصحافة المطبوعة المزدهرة آنذاك، وليتسلّم لاحقاً رئاسة تحرير صحيفة “العلم”، ثم صحيفة “الحضارة”، وذلك قبل أن يستقر به المقام في صحيفة “الرأي العام”، ذائعة الصيت والشهرة في عالم الصحافة السورية.

ومع تأميم وإلغاء تراخيص الصحف الخاصة في سوريا خلال فترة الوحدة مع مصر، شدّ الشاب رحاله كالكثيرين من أبناء المهنة، والمهن الأخرى التي تعرضت للتأميم، نحو الخارج، وتحديداً إلى ألمانيا، للعمل في إذاعة “دويتشه فيليه” كمدير للقسم العربي فيها، حيث بقي فيها حوالي 12 عاماً. وأثناء إجازة له في سوريا، أقنعه وزير الإعلام آنذاك أحمد اسكندر أحمد بالبقاء في البلاد، والمشاركة في جهود تأسيس صحيفة تشرين الرسمية. عن تلك الفترة يروي عصام داري رئيس تحرير صحيفة تشرين الأسبق، أنه تعرّف إلى “جبران كورية” في أواخر العام 1975″، حين كانت التحضيرات تجري لتأسيس صحيفة “تشرين” لتنضم إلى شقيقتيها الرسميتين “البعث” و”الثورة”. وقد تزامنت زيارة “جبران” لدمشق في ذلك العام، مع مساعي وزير الإعلام أحمد اسكندر أحمد في البحث عن “مايسترو” يقود جوقة الأخبار في الصحيفة الوليدة”. ويضيف “داري” في حديثه لـ”أثر برس”: “كان جبران حينها يعمل رئيساً للقسم العربي في إذاعة “دويتشه فيليه” في ألمانيا الديموقراطية، واستطاع الوزير الخبير أحمد اسكندر أحمد إقناعه بالبقاء في دمشق، وعدم العودة إلى برلين ليتسلّم بدايةً منصب رئيس قسم الأخبار، مع العلم أن التسمية ليست دقيقة، لأن الصحيفة كانت قيد التأسيس، ولم يكن هناك قرار يحدد ويوزع الوظائف والمسؤوليات”.

ويجد صبري عيسى المدير الفني لصحيفة تشرين عند تأسيسها، صعوبةً في استعادة ذكريات مضى عليها حوالي 36 عاماً، ومع ذلك فهو يذكر أنه “في مساء اليوم الأول  للعمل على إصدار الصحيفة بأربع صفحات، وبإمكانيات محدودة حيث لم يكن لها مقر، إذ تم تخصيصها مؤقتاً بغرفتين في مبنى مطابع صحيفة الثورة، وذلك قبل البدء ببناء مبنى مؤسسة الوحدة، جاء الوزير المرحوم أحمد اسكندر أحمد إلى مبنى المطابع، ومعه ضيف قدمه لنا باسم الأستاذ جبران كورية، وعرّف عنه بأنه صحفي كان يعمل رئيساً للقسم العربي في إذاعة ألمانيا الشرقية، وأنه من أصحاب الخبرة والمهنية، وسيكون مسؤولاً عن قسم الأخبار في الصحيفة الجديدة”. ويضيف: “بعد ذلك بدأنا بالخطوات التنفيذية لإنجاز العدد الأول، والذي صدر لاحقاً بأربع صفحات بتاريخ 6 تشرين 1975، وبمانشيت رئيس، جاء فيه: ” قوة العرب في وحدتهم”، وكان عنواناً لمقالة كتبها وزير الإعلام. من هنا بدأت تجربة العمل مع الأستاذ “جبران”، ولنتعرف من خلالها على صحفي متمكّن من مهنته، وحرفي من الدرجة الأولى”.

 

  • جيل ذهبي:

 

لم تكن بدايات تأسيس صحيفة “تشرين” سهلة، فإلى جانب قصر الفترة الزمنية المحددة لإصدار الصحيفة، كانت محدودية الإمكانيات المادية والفنية تشكّل عائقاً أو تزيد من معاناة ومتاعب عملية الإصدار، وهذا ربما يجعل البعض يطرح سؤالاً عن السبب الذي يجعل صحفياً معروفاً يترك العمل في إذاعة أجنبية معروفة، ويتفرّغ لإصدار صحيفة بإمكانيات متواضعة.

يعتقد كثيرون أن “أبا جابر”، وهو اللقب الذي اشتهر به “جبران كورية” في الوسط الصحفي، كان يراهن على تأسيس مشروع صحفي ناجح، وهو ما حدث بالفعل مع حضور نخبة من الصحفيين والأدباء السوريين، من أمثال: جلال فاروق الشريف، الدكتور غسان الرفاعي، عادل أبو شنب، محي الدين صبحي، الأديبين الكبيرين محمد الماغوط، وزكريا تامر. وكما يشير صبري عيسى فإن “ما يميز حرفية “أبو جابر” حرصه على تنويع مصادر المادة الإخبارية، مستعيناً بإتقانه لأكثر من لغة، وخاصة الألمانية،  في ترجمة ما يفيد المادة الإخبارية، وإضافة معلومات لها تميّزها عما يُنشر في باقي الصحف. طبعاً كنا ننهي عملنا اليومي عند الثانية صباحاً، ثم نذهب سوية مع الوزير أحمد إسكندر والصديق يعرب السيد إلى أحد مطاعم دمشق المعروفة لتناول الطعام فجراً. وغالباً ما كان “أبو جابر” يتولى مهمة إيصالي إلى بيتي بسيارته”.

ومع انتقاله إلى رئاسة الجمهورية للعمل كمدير للمكتب الصحفي، حافظ “جبران كورية” على علاقاته الودودة، التي نسجها خلال فترة عمله في صحيفة تشرين، ويشهد له الكثير من الصحفيين بالدور الإيجابي الذي لعبه في الدفاع عن المهنة، والسعي الدائم لتطويرها محلياً، وهو ما أكسبه المزيد من الاحترام والمحبة. وتأكيداً على ذلك، يروي عصام داري حادثة، كان لتدخّل “جبران كورية” فيها أبلغ الأثر في معالجتها رغم حساسيتها، فيقول: “نشرتُ مرة خبراً في صحيفة “القبس” الكويتية، التي كنت أعمل مراسلاً لها في سوريا، عن تفجيرين وقعا في دمشق، الأول أمام وزارة الداخلية في المرجة، والثاني قرب وكالة “سانا” في البرامكة. وعلى أثر ذلك اتصل بي الأستاذ “جبران”، وكان آنذاك مديراً للمكتب الصحفي في رئاسة الجمهورية، وقال: ما هذا الذي فعلته؟ وقبل أن أجيب أردف قائلاً: مراسل وكالة الأنباء الإيرانية نشر خبراً عن تفجير المرجة فقط، فتم الطلب إليه مغادرة سوريا في غضون 48 ساعة، فماذا سيكون رد الفعل عليك؟ فعقد الخوف لساني، وغادرتُ إلى منزلي، وبقيت هناك ثلاثة أيام أنتظر دورية تعتقلني، وعندما لم يحصل، عدت إلى الدوام في صحيفة “تشرين”، فاتصل بي وسألني: أين كنت؟ فقلت له: كنتُ مريضاً. فقال: كنتَ مريضاً أم كنتَ هارباً؟ ضحكتُ، وقلتُ: الاثنان معاً، فقال: الأمر صار من الماضي، ولا تسألني ماذا فعلت، ولكن هذه المرة سلمت الجرة!”.

ويضيف داري: “أعترف أنه كان ينحاز إلى صفي في أحيان كثيرة، فمثلاً خلال قمة جنيف بين الرئيس حافظ الأسد والرئيس بيل كلينتون، كان يعطيني الخبر لأذيعه أولاً في إذاعة دمشق، وبعد عشر دقائق يشير إليّ لتوزيع الخبر على بعض الصحفيين ومراسلي وكالات الأنباء والصحف العربية والأجنبية”.

 

  • خسارة العلم:

 

لم يمهل المرض “أبو جابر” ليرتاح قليلاً بعد مسيرة نصف قرن قضاها في أروقة الصحافة، إذ بعد إحالته على التقاعد في العام 2004 داهم المرض جسده، لتبدأ رحلة علاج طويلة، انتهت في العام 2008 مع إعلان وفاته. وعلى إثر ذلك الخبر الحزين، كتب الصحفي المعروف طلال سلمان رئيس تحرير صحيفة السفير اللبنانية بضع كلمات رثاء، قال فيها: “بصمت، كعادته دائماً، بلا تذمّر ولا شكوى، رحل (كاتم أسرار الكبار) “جبران كورية”.  رحل “أبو جابر” الذي بدأ حياته مناضلاً سياسياً، عبر الصحافة، وقد جعلته ثقافته العريضة محللاً متميزاً، ثم هجر مهنة المتاعب إلى موقع شديد الحساسية، يفرض على شاغله أن يتنكّر للصحافة، وأن يبتعد عن زملائه وأصدقائه الأقربين حتى لا تأخذه غفلة أو سوء تقدير، فيصدر عنه أو يفهم من سياق حديثه ما يكشف المكتوم ولا ما يجوز الإفصاح عنه مما يعرفه بحكم موقعه”.

وأضاف سلمان: “شغل جبران كورية، وعلى امتداد سنوات طويلة، مركز مدير المكتب الصحفي للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد.. وقد حضر بطبيعة الحال العديد من اللقاءات – المفاصل، وسمع الكثير من أسرار الدول، وسجّل محاضر لاجتماعات قيل فيها الخطير من الوقائع، وصدر فيها عن بعض الضيوف الكبار ما يتمنّى أي صحفي أن يشهده أو يعرفه… لكنه استمر في أسلوبه: هو في القصر أبو الهول، محدّث لبق، مع أصدقائه الكثر ومع زملائه يشير ولا يقول، ولا يلمح ولا يفصح، ويبقى السر دفيناً في صدره حرصاً على قيمة الأمانة وأهمية الثقة. أما مع أصدقائه، فكان يستعيد حيويته، وينطلق بظُرفه وسعة إطلاعه، إلا فيما يتصل بما يعرفه بحكم موقعه”.

 

اقرأ أيضاً