تشير عقارب الساعة لتمام الثانية عشرة منتصف الليل، يجلس قبالة الساعة المعلقة على الحائط، وسط صمت رهيب، يبهت ضوء “الليدّات” شيئاً فشيئاً، وصوت عقارب الثواني يتضخم، إنها الساعة الأولى لمسيرة جديدة.. أربعة وعشرون عاماً حُزمت داخل حقيبة سوداء ابتاعها من سوق الخجا، أقنعه البائع بأنها الأفضل، وهي الخيار الأول للشباب المسافرين، فقد باع منها المئات خلال الأشهر الأخيرة.
لن يأخذ معه الكثير من الأمتعة، قميص قديم كان ينوي أن يتخلص منه قبل فترة، معطفه الجلدي الذي رافقه خلال سنوات الجامعة، كان قد اشتراه من أحد محلات البالة الأجنبية في منطقة الحريقة، بعد أول مرتب له كنادل، بنطال جينز وبيجاما، أهدته إياها شقيقته الصغيرة، صورة فوتوغرافية تجمعه مع أصدقائه في المرحلة الإعدادية، كان سيلتقط لها صورة عبر الموبايل ويتركها على طاولتها، لكنه قرر أن يحملها، فثلاثة من الأصدقاء السبعة الموجودين في الصورة، قد توفوا خلال الحرب الدائرة.
تصر والدته على توضيب القليل من قهوته المفضلة، وكذلك زهر البابونج، فهو يتعرض لألم البطن في مثل هذا الوقت من كل عام، خبزت له بعضاً من الكعك الذي يحبه، لكنها أحرقت إصبعين من أصابع يدها، لم تكن في أي مرة مرتبكة وضائعة وهي تعد الكعك مثل ذلك اليوم، حيث لم تدندن لحناً قديماً من ألحان قريتها كعادتها، بل كانت حزينة، حتى أن الكعك لم ينضج كما يجب.
سرق بالأمس كنزة والده الصوفية السميكة التي كان يصر هو على ضرورة التخلص منها لأن أكمامها صارت بالية، لكنه لم يدرك كم هي دافئة حتى أحاط جسده بها.
لم تفرح عائلة سالم أو تهلل لخبر تخرجه من جامعته، تقف العائلة أمام خيارين، إما أن يلتحق سالم بخدمة العلم، أو يسافر خارج البلد. في الحالتين سيكون البعد هو الحال.
ينتظر زين نتائج التقدم للماجستير، هناك فرصة للبقاء داخل البلاد لمدة سنتين إضافيتين، على الأقل قد يتمكن خلالهما من جمع مبلغ من المال يساعده إذا سافر، ما يبحث عنه زين هو الحياة أو حتى البقاء على قيدها، يقول: :”لا أريد أن أهاجر، ولكني لم أعد قادراً على العيش في ظل هذه الظروف، فلا يوجد أفق لأي مستقبل، ما ينتظرني هو فقط القتال، لن أعمل بشهادتي، لن أتزوج من أحب، تتوقف أحلامي عند دفة دفتر خدمة العلم”.
سافر شادي قبل انتهاء مدة تأجيله بأيام قليلة، باعت والدته ما تبقى من مصاغها الذهبي كي تؤمن تكاليف الرحلة، يسير شادي في رحلته على غير هدى، فلا الإقامة مؤمنة في بيروت ولا العمل، كل ما يأمله هو الهروب من الحرب، حفرت الصور الأخيرة للشام داخل رأسه أشياء كثيرة، تمنى أن يتخلص منها لكنه لم يتوقع أن يشتاق لها، “صوت الباعة الجوالين، الوقوف على دور الخبز، الاستيقاظ باكراً للحاق بباص النقل الداخلي، والوصول إلى الجامعة”.
الصراع الأكبر يبقى مشتعلاً داخله، أو خلال محادثة الأصدقاء، فهل هو جبان؟، أم إنه خائن لوطنه؟، أو فعل الصواب؟، هل كان سيبقى ليقاتل، يَقتل أو يُقتل، يدافع عن ترابٍ يعشقه، أم يحاول النجاح على أرض أخرى؟.
يد الوالدة، رائحة الصباح، رفقة الأصحاب، وقفة الأخ، كتف الأب، صوت الحبيبة المخنوق، الغربة القاسية، وحدة الروح، الضياع ومحاولة إثبات الذات من جديد، الحروف الغريبة، واللغة الغبية، وجوه جديدة، قوانين وأحكام، الكراهية والعنصرية، نازح.. لاجئ.. غريق.. قتيل.. شهيد.. إقامة مؤقتة وبصمة مكسورة.
بقلم: نسرين علاء الدين