أثر برس

قطاع عام مترهل وطوابير قياسية: ماذا بقي من الاشتراكية السورية؟

by Athr Press R

حتى الشعارات المكتوبة على جدران بعض المؤسسات والمدارس الحكومية باتت خطوطها باهتة، فالزمن في بلد شهد تحولات مختلفة خلال العقدين الأخيرين كان كفيلاً بمحو بعض تلك الشعارات، وإسقاط رمزيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالاشتراكية التي كانت تنشدها البلاد لعدة عقود لم يعد من أثرها اليوم سوى أمرين اثنين: “الأول هو في قطاع عام خاسر مصاب بالترهل والتضخم يبحث عن حل لمشكلاته عبر التعاون مع القطاع الخاص، والثاني تجسده ظاهرة طوابير المواطنين أمام صالات توزيع المواد المقننة والخبز المدعوم ومحطات الوقود”.

وخير مثال على حال الاشتراكية اليوم في سوريا أن البناء الذي تشغله صحيفة البعث، تحول في ميمنته وميسرته إلى مطعمين يستثمرهما القطاع الخاص، لكن ما الغريب في ذلك؟ فالحزب أقر في مؤتمره القطري العاشر قبل خمسة عشر عاماً نهجاً اقتصادياً جديداً سماه باقتصاد السوق الاجتماعي، وكان المدخل لإجراءات اقتصادية واسعة تباينت الآراء حولها، بين مدافع عنها معتبراً إياها الرافعة لإحداث ثورة تنموية وطنية، وبين منتقد لها انطلاقاً من مخاوفه أن تلك الإجراءات مقدمة لتصفية القطاع العام وانسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية.

لكن سرعان ما جاءت الحرب وبعثرت الأوراق، إذ في الوقت الذي كان فيه البعض من مسؤولين واقتصاديين على قناعة شخصية بأن الحرب أثبتت أهمية استمرارية القطاع العام وتدخل الدولة في الشأن الاقتصادي، كان أثرياء الحرب يعظمون عملياً من نفوذهم، ويسيطرون على القطاعات الاقتصادية الحيوية، في خطوة هي بمنزلة “طلقة الرحمة” على ما تبقى من ملامح ” الاشتراكية السورية”.

خمسة عقود!

استقطبت الشعارات الاشتراكية منذ فترة ما قبل الاستقلال وبعدها، ولأهداف سياسية واقتصادية واجتماعية، اهتمامات شريحة ليست بالقليلة من السوريين، استقطاب عُبر عنه بتأسيس أحزاب وحركات سياسية ذات توجه اشتراكي واضح، نجح بعضها في تكوين قاعدة شعبية مناصره لأهدافها ومطالبها ضمنت لتلك الأحزاب الفوز بمقاعد برلمانية والتمثل بحقائب وزارية، إلا أن ذلك بقي في إطار  إفرازات الحياة السياسية التي كانت تعيشها البلاد قبل الوحدة مع مصر في العام 1958، والتي شكلت بداية مرحلة تحول البلاد نحو تطبيق القوانين الاشتراكية من خلال إقرار حكومة الوحدة لمجموعة إجراءات قلبت الحياة الاقتصادية في الإقليم الشمالي رأساً على عقب، فكان صدور قانون الإصلاح الزراعي الذي حدد الملكية الزراعية وصادر أراضي كبار الملاكين، وقانون التأميم الذي مكن الحكومة من وضع يدها على معظم المؤسسات والمعامل العائدة للقطاع الخاص بشقيها الإنتاجي والخدمي، وتعززت تلك الإجراءات أكثر مع وصول حزب البعث إلى السلطة في العام 1963، ومع أن السلطة حاولت إعادة بعض الاعتبار لدور القطاع الخاص بعد العام 1970، إلا أن ذلك لم يحل من دون تضمين الدستور الذي أقر في العام 1973 مواداً صريحة تشير إلى تبني الاشتراكية كخيار سياسي واقتصادي كما جاء في المادة الأولى والمادة الثالثة عشر منه.

تباينت الآراء في تقييم الإجراءات الاشتراكية التي نفذت خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي، ففي حين يرى البعض أن عملية تطبيق تلك الإجراءات لم تجعل من سوريا اشتراكية بالمستوى الذي وصلته دول أخرى، وهذا ما يذهب إليه بشار المنير رئيس تحرير صحيفة “النور” الصادرة عن الحزب الشيوعي السوري وعضو جمعية العلوم الاقتصادية، الذي يؤكد أن “سوريا لم تكن في أي مرحلة من مراحل تطورها منذ الاستقلال بلداً اشتراكياً، فالاقتصاد السوري كان اقتصاداً تعددياً، إذ إنه في أكثر المراحل تضييقاً على القطاع الخاص كانت مساهمة قطاع الدولة في الناتج المحلي ﻻ تتجاوز 45 بالمئة، وبعد فترة تسعينيات القرن الماضي بدأت عملية الانفتاح”.

ويضيف في حديثه لـ”أثر برس” إنه مع ” بداية القرن الجديد جرى تدريجياً إعادة هيكلة الاقتصاد السوري وفق آليات السوق، وتهميش قطاعات الدولة المنتجة، وتحفيز القطاع الخاص، الذي وصلت مساهمته في الناتج المحلي عام 2010 إلى حوالي 72%”.

لا يتفق البعض مع هذا الكلام، فإجراءات التأميم بنظر هؤلاء واحتكار الدولة لمعظم النشاط الاقتصادي منذ بداية الستينات وحتى مطلع الألفية الجديدة خلق بيئة اقتصادية قد لا تنطبق عليها سمات النظام الاشتراكي كما تجلت في تجارب دولية أخرى، إنما هي في المقابل لم تكن تسمح بالتعددية إلا وفق حيز ضيق ومحدود تحدده مصالح القوى وليس وفق الحاجة التنموية للبلاد.

وبحسب ما تذكر الدكتورة لمياء عاصي وزيرة الاقتصاد السابقة فإن “الحديث عن هوية الاقتصاد السوري قبل الأزمة يتطلب المرور على مراحله المختلفة”، والتي تصنفها في حديثها لـ”أثر برس” إلى ثلاث مراحل: “الأولى وتشمل فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي وكان النهج الاقتصادي فيها اشتراكياً لحد ما، أما المرحلة الثانية والتي بدأت في العام 1991 في أعقاب قانون الاستثمار رقم 10، والذي اعتبر الخطوة الأولى باتجاه اقتصاد متعدد كما جاء في الخطاب السياسي آنذاك، والقائل إن الاقتصاد السوري يتكون من ثلاث قطاعات أسياسية هي عام وخاص ومشترك، وبدءاً من أول الألفية الثالثة، اتجه الاقتصاد السوري أكثر نحو الانفتاح وإشراك القطاع الخاص بشكل أكبر في الحياة الاقتصادية، وخصوصاً في قطاعات كانت محصورة بالدولة فقط مثل قطاعات المصارف والتأمين والتعليم، أما المرحلة الثالثة والتي مثلت تحولاً حقيقياً في الاقتصاد السوري فقد كانت مع إقرار المؤتمر العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي في العام 2005، التحول نحو اقتصاد السوق الاجتماعي كنهج اقتصادي جديد بديلاً عن النهج الاشتراكي السابق وكوسيلة لتطوير الاقتصاد السوري الذي كان يعاني من مشاكل كثيرة، وهكذا جرى التحضير لانفتاح كامل من خلال الخطة الخمسية العاشرة”، التي تبين بعد عامين ونصف العام أنها كانت منحازة في التطبيق لصالح سياسات اقتصاد السوق على حساب السياسات الاجتماعية بدليل مثلاً ارتفاع معدل الفقر المادي وفق ما جاء في تقييم منتصف الخطة الذي أجرته هيئة تخطيط الدولة في العام 2009 ولم ينشر، حيث أكد التقييم أن “الخطة العاشرة لم تحقق أهدافها المتعلقة بالفقر المادي بل على العكس فقد ازداد الفقر، كما تفاقم التفاوت ببن المناطق في دليل على عدم نجاح البرامج التي كانت مخططة لتخفيض الفقر في المناطق الأكثر حرماناً في تحقيق أهدافها”.

انتهاء مرحلة

كل هذا الجدل توقف مع سنوات الحرب، التي حملت متغيرات كثيرة جعلت الاقتصاد السوري مبعثراً تائهاً، ومنهوباً، تارة بفعل الخسائر الهائلة التي لحقت بمختلف قطاعاته، والمقدرة حالياً بأكثر من 520 مليار دولار جراء عمليات التدمير والتخريب والعقوبات الخارجية، وتارة أخرى نتيجة لظهور طبقة جديدة من الأثرياء والمنتفعين وتحكمها بجوانب هامة من حياة السوريين، على أن الأخطر هو في تراجع مساهمة الدولة في النشاط الاقتصادي، والذي تتضح معالمه من خلال انخفاض الاعتمادات السنوية المخصصة للمشروعات الاستثمارية وتراجع نسبة الاعتمادات المخصصة لبند الدعم الحكومي من إجمالي اعتمادات الموازنة العامة للدولة، ولهذا فإن الدكتورة عاصي تعتقد أنه “لا يمكن اعتبار النهج الحالي الاقتصادي في سوريا اشتراكياً، ضمن أي معايير أو أسس، بل إن الاقتصاد الحالي ذو هوية عائمة يعتمد على احتكار القلة ومجموعات الضغط على القرار الحكومي، فعلى سبيل المثال: “تم تحرير أسعار معظم السلع الرئيسية مثل المشتقات البترولية وغيرها من الأسمدة والأعلاف والبذار، إضافة إلى أن الفجوة الاجتماعية اتسعت كثيراً بين قلة من الأثرياء والغالبية من الفقراء، وانعكست سلباً على تفاصيل البنية الاقتصادية التي أصبحت هشة جداً”، وهو ما يذهب إليه أيضاً رئيس تحرير صحيفة النور بقوله: “اليوم، وبعد الأزمة والغزو الإرهابي، تقلص دور قطاع الدولة، وتراجع دورها الرعائي تجاه الفئات الفقيرة والمتوسطة، ولا يوجد أي مظهر من مظاهر الاشتراكية”.

فهل هذا يعني أن زمن الاشتراكية في سوريا قد ولى؟

ليس ثمة ما يشير إلى إمكانية أن تعاود سوريا محاولتها بناء نظام اشتراكي وفق المبادئ والقواعد التي تمثل جوهر النظام الاشتراكي، إذ إنه حتى المؤيدين للتوجهات الاشتراكية سابقاً كأفراد ومؤسسات يستبعدون ذلك، لكن ربما تجد البلاد مزيجاً ما يبقي على حضور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية سواءً لأسباب قد تتصل بتأثير منظومة الفساد المنتشرة في مفاصل الدولة أو لأسباب سياسية واجتماعية مستخلصة من تجربة سنوات الحرب العشر الماضية.

وحسب رأي المنير فإن “مؤشرات ودلائل السنوات العشر الماضية تشير إلى أن الاقتصاد السوري بعد الحل السياسي للأزمة سوف يستكمل التوجه باتجاه السوق، فهناك ضغوط داخلية وخارجية لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني وفق آليات السوق الحر، وهذا يعني أن الفئات الفقيرة سوف تدفع ثمن هذا التحول بعد أن دفعت ثمن تداعيات الأزمة وغزو الإرهابيين، وهناك سيناريوهات لما بعد الأزمة تدرس في الصناديق الدولية، لكن نأمل أن تنتهج سوريا نهجاً اقتصادياً تعددياً يسعى لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة ومتوازنة تعيد إعمار بلادنا”.

تتعمق وزيرة الاقتصاد السابقة أكثر في شرح ملامح النهج الاقتصادي المقبل فتقول: “الحديث عن الاستثمارات يقودنا إلى منهج اقتصادي يتسم بالانفتاح، يعتمد على قوانين السوق، وتنتقل فيه الدولة من مالك كبير للمؤسسات ووسائل الإنتاج إلى صانع سياسات وواضع للقوانين والتشريعات التي تناسب الوضع الاقتصادي والإنتاجي للبلد ويسمح للقطاع الخاص بالعمل وفق قانون العرض والطلب”، مشيرة إلى أن “دور الدولة القوي ضروري جداً كمتدخل مباشر في حالة الأزمات، كما هو الحال في أزمة “كورونا” التي اضطرت دول كثيرة إلى فرض حظر عام، إنما الدول القوية هي التي استطاعت أن تمنح حزماً تحفيزية، وتنقذ شركات كثيرة من خطر الإفلاس، وتقدم الرعاية الكاملة لمواطنيها، وهي دول ذات نهج اقتصادي ليبرالي، وتالياً فإن اتباع النهج الاقتصادي المعتمد على قوانين السوق لا يعني أن تنسحب الدولة من وظيفتها الرئيسية كضامن لتوازن المجتمع ونموه واستقراره، فالدور القوي للدولة أساسي ولكن يختلف شكله وأدواته”.

زياد غصن

أثر برس

المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

اقرأ أيضاً