خاص|| أثر برس عندما اختطفت الاستخبارات التركية، المدعومة بنظيرتها الأمريكية، الزعيم الكردي عبدالله أوجلان، من العاصمة الكينية نيروبي، ظهر في مقطع الاختطاف عدة أشخاص ملثمين، لم نعلم حتى اليوم من هم على وجه التأكيد، ولكن تنحصر معلوماتنا في أنهم استلموا مكافآت مجزية، وأن رئيس الجمهورية آنذاك، سليمان دميريل، سلمهم ساعات يد تحمل تذكار العملية، وحتى هذه الساعات لم نرها بعد، ولكن اسماً واحداً تسرب إلى العلن، ولم يوجد من ينفي صلته، وهو العقيد في القوات الخاصة لاونت غوكتاش.
يتمتع غوكتاش بشهرة لافتة، وأغلبها ناجمة عن أخبار غامضة لم تجد من ينفيها أو يؤكدها، فهو كان قائد فوج استطلاع داخل وحدات «القوات الخاصة»، إحدى قوى النخبة في الجيش التركي، وقيل إنه كان من قادة الحروب الطاحنة التي خاضها الجيش في جنوب شرقي البلاد، وفي شمال العراق، ضد مسلحي «حزب العمال الكردستاني» في ثمانينات وتسعينات القرن الفائت، ونال ثلاث ميداليات شجاعة، وأجاد القفز المظلي والقتال تحت المائي، كما تتمتع القوات الخاصة التي ينتمي لها بميزة أداء مهمات خاصة خارج البلاد وداخلها، وبدرجة عالية من التغطية السياسية، حتى أنه بإمكان ضباطها نسج علاقات قد يرونها مفيدة مع تجار سلاح ومخدرات ومجرمين من مختلف المستويات، ويؤدون عبر هذه العلاقات مهمات قذرة لصالح الدولة، وبالتنسيق مع الاستخبارات الوطنية، ويظهر أن علاقة التنسيق هذه شكلت جسراً للاونت غوكتاش كي يتولى قيادة العمليات في الأراضي السورية تحت مسمى ملحق عسكري في السفارة التركية في دمشق، بين عامي 1998 و2000.
لا نعلم الكثير من تفاصيل عمل غوكتاش في سوريا، ولكن عند وضع الأمر في سياقه التاريخي نرى أنه جاء في فترة ترميم العلاقات بعد أزمة عام 1998 الشهيرة بين أنقرة ودمشق، والتي كانت الأمور فيها قد وصلت إلى حافة الحرب، وربما ساعد على تعيينه هو بالذات أنه كان قريباً سياسياً من الأوراسيين، وهنا يجب أن نتوقف قليلاً فنتكلم عنهم، الأوراسيون هم تيار أغلبه من العسكريين، وينادي عموماً بعلاقات جيدة مع روسيا والصين وإيران والعراق إضافة إلى سوريا طبعاً، ويعلن مواقف مناوئة للناتو، ولا يعني هذا أن الأوراسيين تقدميون، فمواقفهم عدائية اتجاه اليونان وأرمينيا، ويدافعون عن مجازر الأرمن والروم والسريان بشتى الحجج، ويعتبر الضابط الراحل أيتاش يالمان، أحد معدي اتفاقية أضنة الشهيرة، أحد أبرز ممثلي هذا التيار.
ومن هنا ليس مستغرباً أن يأتي شخص بمواصفات غوكتاش ليتولى هذه المسؤولية في فترة بدء إصلاح العلاقات بين البلدين، ولكن المستغرب هو أن ملحقاً عسكرياً في سفارة يرتقي ليصبح بعد عامين فقط مرشحاً لشغل أهم منصب أمني في بلاده، أي رئاسة الاستخبارات الوطنية، وهذا يؤكد دقة العمليات التي قادها داخل الأرض السورية.
محاولات حثيثة لم تكتمل
كان هناك مرشح أوفر حظاً منه، في بدايات الألفية الثانية وهو كاتب مدني تخصص في التنبيه إلى خطر الجماعات الدينية، التي تنتهج استراتيجية «فتح القلعة من الداخل»، وتعني التسرب إلى مفاصل الدولة والمواقع الحساسة فيها، وتسييرها بما يتلاءم ومصلحة الجماعة، وركز هذا الكاتب بشكل خاص على جماعة فتح الله غولن، التي بلغت فعلاً بعد حوالي 15 عاماً على ذلك قوة، داخل مفاصل الدولة، أهلتها لقيادة محاولة انقلابية كادت أن تطيح بالرئيس أردوغان لولا لطف الأقدار إن جاز القول، هذا الكاتب هو نجيب هابلميت أوغلو، الذي لقي حتفه بإطلاق نار من مجهولين عام 2002، وأشارت المعطيات فوراً إلى جماعة غولن كمتهم رئيسي، ولكن الأقدار لم تبتسم للاونت غوكتاش، إذ برز فجأة شخص متقاعد من الجيش، وليس ضابطاً بل صف ضابط، فاستلم دفة الاستخبارات بدلاً عنه، ولا يزال حتى اليوم، وهو هاكان فيدان، بمرور الوقت.
برز اسم غوكتاش للمرة الثانية عام 2013، في إحدى القضايا الكبيرة، التي تمكنت عبرها جماعة غولن، وبغطاء من حليفها آنذاك أردوغان، من استهداف رؤوس العسكر العلمانيين ومحازبيهم المدنيين، وتم اتهامه بعضوية تنظيم «أرغنكون» المزعوم المتهم بالتخطيط للانقلاب على الحكومة المنتخبة، وكانت هذه مناسبة لنعرف أنه يتمتع بعلاقة عائلية مع أردوغان، وهذا تأكيد ثانٍ على حساسية ما قام به خلال هذين العامين في سوريا، إذ ليس من المعتاد أن يعقد رئيس وزراء علاقات صداقة مع قائد فوج استطلاع، وواحد من عشرات الضباط برتبة عقيد، وخاصة أن الرجلين متناقضان سياسياً، فأحدهما إخواني والآخر كمالي ميال إلى الأوراسية. ويزداد فهمنا لما حدث حين الأخذ بعين الاعتبار المقابلة التي أجراها ضابط الاستخبارات التركي المنشق، أوندير سيغيرجيك أوغلو، المتهم بخطف أول ضابط سوري فار، مؤسس “الجيش الحر” حسين هرموش، وتسليمه إلى السلطات السورية مقابل المال.
وتفيد المقابلة بأن الاستخبارات التركية كانت دوماً تقوم بعمليات استطلاع في العمق السوري، وكثيراً ما تحاول تجنيد المتعاونين، حتى عندما كانت العلاقات جيدة بين الطرفين بين عامي 2000 و2010.
بأية حال، خرج غوكتاش من السجن بالتزامن مع انهيار التحالف بين أردوغان وغولن، وتحوله إلى عداء شرس، وهنا كانت فرصته الذهبية، إذ دخل الخدمة في الاستخبارات الوطنية مجدداً، ويبدو أن خدماته كانت تركز على اجتثاث جذور جماعة غولن في الجيش والأمن، وتعززت فرصه في العودة إلى الأضواء مع المحاولة الانقلابية الفاشلة، وتفكير أردوغان في تغيير هاكان فيدان، الذي كان أداؤه سيئاً في التنبه لها، وللمرة الثانية انطرح اسم غوكتاش كمرشح لشغل المنصب، ولكنه للمرة الثانية فشل في الوصول، ولم يطل به الأمر حتى تقاعد، وبدأ بممارسة المحاماة، ودخل اسمه في بعض أكبر الصفقات التجارية، وقيل إنه مارس كذلك تجارة السلاح عن طريق علاقاته المتراكمة من أيام العمل والمهمات السرية خارج الحدود.
2022 أبشع مفاجأة لـ “غوكتاش”
كانت السلطات الأمنية قد تمكنت من تحديد موقع شخص متهم بارتكاب جريمة هابلميت أوغلو، وتسلمته من السلطات الأوكرانية، حيث كان يقيم، وهو معروف بولائه لغولن، ولكن حين التحقيق معه كشف عن اسم من أصدر إليه الأمر باغتيال هابلميت أوغلو، إنه لاونت غوكتاش نفسه، إنها فرصة نادرة لكشف تفاصيل إحدى أبرز الجرائم السياسية في التاريخ المعاصر لتركيا، وأول عملية مشتركة نعرف أن جماعة غولن وضباط علمانيين نفذوها بالتعاون بين بعضهم البعض رغم أنهم أشرس الأعداء سياسياً، ووفق معلوماتنا فإن الرجلين تعاونا في بيع أسلحة ومتفجرات لتنظيم “داعش”، ورغم كل ما انكشف، كان هناك داخل المؤسسة الأمنية من لديه ولاء كافٍ كي ينذر غوكتاش حتى يفر قبل وصول قوة الشرطة لتوقيفه على ذمة القضية، وفعلاً، تمكن من الفرار عدة مرات دون أن تتمكن الشرطة من تحديد مكانه.
وأما آخر خبر فقد أفاد بأنه تمكن من الوصول إلى اليونان، ويبدو أن اليونانيين رضوا عن كمية الخدمات (المعلومات) التي قدمها نظير حمايته، ذلك أن الخبر تحدث عن وجوده يمارس السباحة في أحد الشواطئ مرتاحاً.
وحفلت مواقع التواصل الاجتماعي بأخبار غامضة، فقد انطلقت صفحات باسم لاونت غوكتاش، وأغلقت في فترة قصيرة، وهددت، خلال هذه الفترة القصيرة، بكشف فضائح الممارسات التركية، ولا سيما في سوريا.
ويظهر أننا شهدنا انعكاسات لجولات تفاوضية شاقة بين أركان الدولة العميقة، ولا نعلم بعد إلام انتهت، ولكن نستطيع أن نخمن أن الدولة رضت بفرار غوكتاش شرط التزامه بقانون الصمت المعروف لدى رجال المخابرات ورجال المافيا على حد سواء.
الاحتمال الأكبر اليوم هو أن يكون غوكتاش بيد اليونانيين، لقد رأينا سابقاً كيف هز الزعيم المافيوي الفار سيدات بيكير أركان السلطة عبر الفضائح التي كشفها من مقر إقامته في دبي، ويستطيع غوكتاش، إن رضي اليونانيون بذلك، أن يؤسس حالة مشابهة، ولكن هل سيقبل اليونانيون بذلك؟ هل هم على استعداد لتحمل عواقب هذا؟ نعتقد أن الجواب ليس لديهم بل في واشنطن، التي ستقرر في الفترة الفاصلة الممتدة من الآن وإلى حوالي 11 شهراً، حين يحل موعد الانتخابات الرئاسية، إما أن تدخل جهود الإطاحة بأردوغان أم تصدق مجدداً الضمانات التي سيقدمها بحماية مصالحها.
سومر سلطان