103
فيما كانت أصوات الكادر الصحي تتعالى محذرة من سيناريو قد لا تحمد عقباه فيما لو بقي الحال على ما هو، كان القرار الحكومي يدفع نحو مزيد من التريث في اتخاذ أي إجراء، حتى جاءت القرارات الأخيرة المتعلقة بإيقاف الدوام في الجامعات والمدارس وبعض الجهات العامة. تريث لم يبرر علمياً، خاصة وأن حزمة إجراءات العام الماضي الواسعة نفذت ولم تكن البلاد قد سجلت آنذاك أي إصابة بالفيروس.
ليست سوريا وحدها، التي تجد نفسها حالياً في مواجهة خيارين أحلاهما مر، فمعظم دول العالم خاضت خلال الأشهر القليلة الماضية نقاشاً عميقاً أفضى إلى اعتماد خيار الإغلاق العام والجزئي في دول عديدة، وإلى اتباع سياسة “مناعة القطيع” في دول أخرى، لكن في الحالة السورية لا يبدو الخيار سهلاً، فمن جهة يعاني النظام الصحي من ضعف شديد جراء تأثيرات سنوات الحرب والحصار، وتالياً فهو غير قادر على تحمل أعباء إضافية مع أي تصاعد جديد لمنحى الإصابات.
ومن جهة ثانية فإن البلاد تشهد تدهوراً اقتصادياً منذ أكثر من عام ونصف العام جعل أكثر من 90% من السكان يعيشون فقراً تختلف شدته بين يوم وآخر، وعليه فإن أي توجه حكومي لإغلاق البلاد يعني عملياً زيادة معاناة أسر كثيرة، لاسيما في ظل غياب شبكة حكومية فاعلة للحماية الاجتماعية.
*إجراءات بلا تقييم!
مع أن البلاد لم تكن قد سجلت آنذاك أي إصابة، إلا أن الحكومة السابقة فضلت مع بدايات انتشار الفيروس عالمياً تطبيق جملة إجراءات استباقية سعت من خلالها إلى تحقيق هدفين، الأول الحد محلياً من أي انتشار محتمل للفيروس المرعب، لاسيما في ظل الضبابية التي كانت تحيط بأسباب انتشاره وتطوره كوباء عالمي. والهدف الثاني هو إعطاء الفرصة للنظام الصحي المنهك لترميم ما يمكنه من مواجهة تبعات الفيروس، وتفادي سيناريوهات دول كانت تعتد بتقدم نظامها الصحي فوجدت نفسها مع انفجار الإصابات مضطرة للمفاضلة بين أبنائها بالحياة والموت.
إذ خلصت دراسة أجرتها وزارة الصحة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية لدراسة صلاحية المستشفيات والمراكز للقيام بوظائفها وذلك بنهاية شهر أيلول من العام 2018 إلى أنه من بين 111 مستشفى عاماً خضع للتقويم كان هناك 57 مستشفى تعمل بالكامل أي ما نسبته 57%، و28 مستشفى كانت تعمل بشكل جزئي وتعاني نقصاً في العاملين أو المعدات أو الأدوية أو أضراراً في المباني مشكلة بذلك نسبة وقدرها 25%، وكان هناك 26 مستشفى غير عاملة أي ما نسبته 24%. ومن بين 1807 مراكز خضعت للتقويم كان هناك 829 مركز عامل بنسبة 46%، و360 مركز تعمل بشكل جزئي مشكلة نسبة وقدرها 20%، وكان هناك آنذاك ما يقرب من 618 مركز غير عاملة وهي تشكل ما نسبته 34% من إجمالي عدد المراكز الصحية.
ورغم عدم توفر بيانات دقيقة تتيح إجراء تقييم موضوعي لنتائج تلك الإجراءات في ظل غياب دراسة حكومية ترصد نتائج تلك التجربة، إلا أنه يمكن القول إن الخطوات المتخذة، وإلى جانب التراجع الكبير في حركة القدوم خلال سنوات الحرب، حققت نوعاً ما الهدفين السابقين، لكنها في المقابل تسببت بخسائر اقتصادية تباينت التقديرات غير الرسمية حول حجمها وخطورتها، فضلاً عن معاناة أسر كثيرة فقدت مصدر رزقها أو عجزت عن الوصول إلى تأمين احتياجاتها الرئيسية، وأولها الغذاء.
وهذا ربما ما دفع الحكومة الحالية إلى التريث في تكرار تجربة الإغلاق الجزئي، أو حتى التفكير بخطوات تذكر المواطنين بإجراءات العام الماضي كإغلاق المدارس والجامعات لفترة محدودة، وهو القرار الذي جاء متأخراً رغم الأصوات العلمية المطالبة بذلك(أثناء تقديم المادة للنشر صدر قرار بوقف العملية التعليمية وتقديم امتحانات الصفوف الانتقالية).
الموقف الحكومي المشار إليه آنفاً، استند فقط على استنتاجات عامة لمؤسسات الدولة والقطاع الخاص من دون أن تكون هناك دراسات معمقة تبحث في طبيعة التأثيرات التي نجمت عن تطبيق تلك الإجراءات على القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والصحية، وتقدم إجابات على أسئلة كان من البديهي طرحها من قبيل: ما تقديرات خسائر الاقتصاد السوري جراء عملية الإغلاق السابقة؟ ما عدد الأسر التي فقدت مصدر دخلها أو جزءاً منها خلال تلك الفترة؟ ما عدد الإصابات التي كان يمكن أن تحدث فيما لو لم تتخذ تلك الإجراءات؟ وهل ما جرى فعلاً من خطوات لتحديث تجهيزات المستشفيات كان يستلزم إغلاق البلاد؟ وغير ذلك.
في ضوء الوضع الاقتصادي والاجتماعي لسوريا فإنه لا مناص في نهاية المطاف من الاعتراف أن مواجهة فيروس كوفيد-19، وأياً كان خيار الحكومة، ستحمل معها كثيراً من الآلام، وهو ما يعبر عنه الدكتور علي رستم المتخصص بالدراسات السكانية بطرحه السؤال التالي: “أيهما أرحم؟ الموت بوباء كورونا أم الموت جوعاً في مجتمع أنهكته حرب رفعت فيه مستوى الفقر إلى ما يتجاوز 80% في العام 2019، وانعدام الأمن الغذائي من حوالي 1% إلى ما يتجاوز 30% وفق تقديرات المكتب المركزي للإحصاء وإلى أكثر من 50% بحسب تقديراتنا كباحثين في هذا الشأن”.
ويضيف في حديثه لـ “أثر برس” حول الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تجعل من أي عملية توقف للعمل كارثية “إن انعدام سياسات الحماية الاجتماعية الفعالة من قبل الحكومة، ضعف حراك المجتمع الأهلي واقتصاره على بعض العمليات الإغاثية المحدودة، عدم وجود ضمانات للعمال المتوفقين عن العمل وخاصة بالنسبة للعاملين في القطاع الخاص، والذين فقد حوالي 40% منهم أعمالهم قيل الجائحة الأخيرة، إذ أن نسبة من يعملون في القطاع الخاص غير المنظم تشكل حوالي 93% من نسبة العاملين في القطاع الخاص وحوالي 68% من إجمالي العمالة السورية، وهؤلاء سيتحولون حكماً إلى جيش من العاطلين عن العمل في حال اتخاذ أي قرار من شأنه توقف أعمالهم، وتالياً فإن النسبة المقدرة لحجم البطالة في سوريا، والبالغة في أكثر التقديرات تفاؤلاً حوالي 40%، ستشهد زيادة كبيرة، وهذا سيزيد من عمق الفقر، لا زيادة عدد الفقراء، لأن غالبية السوريين يعيشون في الأساس تحت خط الفقر وعندئذ تصبح أي خطة لانتشالهم إلى ما فوق خط الفقر من المعجزات”، فكيف سيكون الحال، والوضع الاقتصادي حالياً يشهد تدهوراً شبه يومي، نتيجة الانخفاض الحاد الذي تعرض له سعر صرف الليرة، والنقص الحاد في المشتقات النفطية وضعف حوامل الطاقة؟
في ضوء ذلك، لا يجد الأطباء خياراً سوى المطالبة بإحداث نوع من التوازن بين المحافظة على استمرارية النشاط الاقتصادي، وبين ضرورة اتخاذ تدابير وإجراءات على مستوى البلاد تحد من انتشار الفيروس وتساعد الكادر الطبي في عمله، لاسيما في أوقات الذروة كما هو الحال الآن.
وهذا ما يفسر الدعوة المتكررة للأستاذ في كلية الطب الدكتور نبوغ العوا بإغلاق المدارس لمدة شهر، وهذا أيضاً ما ذهب إليه الدكتور طارق العبد الاختصاصي في طب الأورام خلال حديثه لـ” أثر برس”، حيث أكد أنه “كان يمكن إيجاد نوع من التوازن بين الإغلاق واستمرار الوضع الاقتصادي. إذ ربما تكون سيكولوجيا المواطنين لدينا تجعلهم لا ينفذون أمراً ما من دون قرار حكومي يلزمهم بذلك، فمثلاً لو استمر إغلاق صالات الأفراح والتعازي، التشديد على النوادي الرياضية للالتزام بالتدابير الصحية، تنظيم الدوام في المدارس على مرحلتين، والتشدد بموضوع ارتداء الكمامة والتباعد الاجتماعي خلال الفعاليات والأنشطة، كل ذلك كان بإمكانه التخفيف من الضرر الحالي”.
*أرواح وإمكانيات!
إذا كانت التقديرات غير الرسمية تتحدث عن خسارة اقتصادية يومية قدرها 33 مليار ليرة جراء الإجراءات التي جرى تطبيقها في شهر أذار من العام الماضي، فإن التقديرات المتعلقة بعدد الإصابات الحقيقية في سوريا والوفيات الناجمة عنها لاتزال غائبة رغم مرور أكثر من عام ونيف على ظهور الفيروس في البلاد، وبحسب ما يشير الدكتور العبد فإن “الوفيات الرسمية نشمل الحالات التي تم إجراء مسحات لها وتالياً للمرضى الذين قبلوا بالمستشفيات، أما مرضى المنازل الذين يموتون جراء الإصابة بفيروس كورونا، ونحن كأطباء نعرف ذلك، فإنه لا يمكن تسجيل سبب الوفاة على أنه نتيجة الإصابة بالفيروس طالما ليست هناك مسحة مأخوذة للمريض، خاصة وأن تكلفة المسحة مرتفعة وهناك أسر كثيرة لا تستطيع إجرائها، لذلك يبقى العدد الرسمي المعلن للإصابات والوفيات أقل من العدد الحقيقي”. ويضيف أن “الموجة الحالية من انتشار كوفيد-19 أصعب من الموجة التي حدثت في الصيف الماضي”.
صحيح أن أرواح الناس هي الأغلى، ويفترض أن تركز جميع الجهود الحكومية والخاصة على إنقاذ حياة المصابين والمحافظة عليها، إلا أن مقاربة الملف الصحي تنطلق من اعتبارات أخرى أبرزها: إمكانيات النظام الصحي على استقبال المصابين وتوفير العناية اللازمة لهم، توفر التجهيزات والمستلزمات الأساسية والقدرة على ضمان توريدها بالسرعة المطلوبة، قدرة الدولة على توفير البرتوكول العلاجي للمرضى بتكاليف مدعومة تراعي مستوى الدخل المتدني، وتمكين الكادر الطبي من الوصول إلى المعلومات الجديدة المتسارعة المتعلقة بهذا الفيروس.
ووفقاً لواقع النظام الصحي في سوريا بعد عشر سنوات حرب وحصار وفساد فإن الإمكانيات الحالية تبدو متواضعة على مختلف المستويات، وإن كانت جهود وتضحيات الكادر الصحي تحاول استثمارها بالحد الأقصى، وبحسب ما يذكر الدكتور رستم فإن “سوريا ووفقاً لمؤشر الأمن الصحي العالمي تأتي في المرتبة 188 من أصل 195 دولة في الاستعداد لمواجهة الفيروسات الوبائية، وتحتل المركز نفسه في درجة الاستعداد لحالات الطوارئ”.
وعلى الرغم من أن “المجتمع السوري يعتبر من المجتمعات الفتية، إلا أن 20% من السكان يعانون من أمراض مزمنة، وترتفع هذه النسبة لتصل إلى حوالي 80% بين كبار السن ممن هم في عمر 60 سنة فأكثر، والذين يشكلون حوالي 8% من السكان وفقاً للتقديرات الأخيرة ولا يزال 10% منهم يعملون”.
كما أنه لا يمكن في هذا السياق إغفال تكاليف العلاج المرتفعة في مجتمع تتراجع القوة الشرائية للدخل يوماً بعد يوم إلى مرحلة تعجز فيها أسر كثيرة عن تأمين الغذاء لأفرادها، فكيف سيكون حالها فيما لو أصيب أحدهم بالفيروس، خاصة وأن تسعيرة الليلة الواحدة للمصاب بالفيروس في المستشفيات الخاصة باتت تتراوح ما بين مليون ومليون ونصف المليون ليرة، في حين أن تكلفة معالجة بعض الحالات بعيداً عن المستشفيات تتجاوز مليوني ليرة سورية جراء ارتفاع أسعار الدوار والتحاليل واسطوانات الأوكسجين، وهو ما يجعل الكثير من المصابين يضطرون إلى مصارعة الفيروس في منازلهم وفق أبسط الإمكانيات.
ربما أفضل ما هو مطلوب من الحكومة في هذه المرحلة يتلخص في كيفية إداراتها للملف انطلاقاً من قاعدتين أساسيتين، الأولى أن درهم وقاية خير من قنطار علاج، والقاعدة الثانية أن العمل عبادة.