زياد غصن || أثر برس على خلاف ما قاله وزير الكهرباء المهندس غسان الزامل في شهر تشرين الثاني الماضي، فإن الأمبيرات المخصصة للتوليد المنزلي “لم تنته” مع صدور قانون الطاقات المتجددة كما توقع، وإنما زاد انتشارها الجغرافي لتشمل المزيد من التجمعات السكنية بما فيها الضواحي المحيطة بالعاصمة، وهو الأمر الذي جعل الكثير من المواطنين على قناعة بأن زمن الطاقة الكهربائية الحكومية المدعومة قد ولى.
في البداية، شكلت التجمعات السكنية، التي كانت مسرحاً لمعارك قاسية خلال فترة الحرب، بيئة مناسبة لانتشار الأمبيرات بحجة توفير الطاقة الكهربائية لمنازل السكان وللورش والفعاليات الاقتصادية الصغيرة، فكانت مدينة حلب، التي خرجت محطتها الكهربائية الرئيسية عن الخدمة بالكامل، أول هذه التجمعات وأكثرها اعتماداً على كهرباء الأمبيرات، ثم لحقت بها تجمعات في محافظات أخرى كدير الزور وغيرها.
لكن مع تراجع ساعات التغذية لشبكة الكهرباء الحكومية وفقدان الأمل بتحسنها بعدما تبخرت وعود وزارة الكهرباء أكثر من مرة، بدأت الأمبيرات تنتشر وبشكل سريع في محافظات ومدن رئيسية ظلت بعيدة نوعاً ما عن مجريات الحرب، لتتحول الأمبيرات بذلك إلى خيار قد يكون مناسباً لشريحة اجتماعية قادرة على تحمل تكاليفه، إلا أنه ليس كذلك بالنسبة إلى شريحة واسعة تقف عاجزة اليوم حتى عن توفير لقمة العيش.
يتمنعن وهن راغبات:
يتباين الموقف الشعبي من الأمبيرات تبعاً لخصوصية منطقة انتشارها، ففي المناطق التي تعاني من غياب شبه كامل لخدمات شبكة الكهرباء الحكومية، ينحصر الاهتمام بارتفاع أسعار الأمبيرات وساعات التغذية وما تتسبب به المولدات من ضجيج وتلوث وما إلى ذلك، أما في المناطق الأخرى التي بقيت بعيدة عن أضرار الحرب، فإن جوهر الاهتمام يتجه نحو الغاية الرئيسية من غضّ الطرف الحكومي عن انتشار الأمبيرات، رغم ما تشكله من تهديد مباشر وخطير لشبكة الكهرباء الحكومية، التي هي في النهاية إحدى مقومات استمرار الدولة وحضورها في الحياة العامة.
رغم تنصل وزارتي الكهرباء والإدارة المحلية ومؤسساتهما من مسؤولية انتشار الأمبيرات وتأكيدهما على عدم مشروعيتها، إلا أن الشكوك تلاحق الوزارتين، لا سيما وأن كلاً منهما تملكان من الصلاحيات ما يسمح لها قانونياً بوقف زحف الأمبيرات ومنع تحولها إلى أمر واقع؛ فالكهرباء تملك بموجب القانون الحق الحصري في موضوع توزيع الكهرباء، وذلك وفقاً لتصريح سابق لوزير الكهرباء، الذي عاد في تصريح نشر مؤخراً ورمى الكرة في ملعب وزارة الإدارة المحلية، والمحافظات بوحداتها الإدارية لديها من الصلاحيات ما يؤهلها لملاحقة الأمبيرات ومنع تركيب مولداتها ومد خطوط التوزيع،
عموماً يمكن القول إن استراتيجية التعامل مع هذا الملف قامت على ركيزتين أساسيتين:
– الأولى إعلامية وإجرائية تقوم على ترديد عبارات تؤكد رفض الحكومة لتشريع عمل الأمبيرات باعتبارها مرهقة اقتصادياً وملوثة للبيئة، واعتبار أن قطاع الكهرباء سيبقى حكومياً، وفي هذا السياق يمكن مراجعة جميع تصريحات مسؤولي وزارة الكهرباء ولقاءاتهم الإعلامية، وحتى عندما يضطرون لتسطير ردّ كتابي، فإنهم يتمسكون بما يرد في قوانين الوزارة مثل الكتاب الموجه من مدير شركة كهرباء ريف دمشق إلى محافظة ريف دمشق المتضمن ردّ الشركة على طلب ترخيص المولدات المتواجدة في إحدى مدن ريف دمشق استناداً لأحكام القانون رقم 41 لعام 2022، حيث أكدت الشركة أن “القانون المذكور لا يجيز توليد الطاقة الكهربائية عن طريق المولدات الكهربائية التي تعمل على الوقود، وإنما يسمح بتوليد الطاقة الكهربائية عن طريق الطاقات المتجددة فقط، كما أنه لا يجوز استخدام الشبكة الكهربائية التابعة لشركة كهرباء ريف دمشق لصالح أي مستثمر من دون ترخيص”.
– الثانية عملية، وتتمثل في تسهيل عمل الأمبيرات على أرض الواقع، فضلاً عن غض الطرف عن انتشارها، ففي بعض المناطق سمح لها باستخدام أعمدة الشبكة الكهربائية الحكومية لتمديد الاشتراك للسكان، وفي مناطق أخرى سمح لها بإشغال الأرصفة والأراضي العائدة للوحدات المحلية وذلك مقابل رسم مالي، وفي مناطق ثالثة طلب منها توفير إنارة مجانية للمؤسسات الحكومية والشوارع التي لديها فيها مشتركين، وهكذا.
وحتى مع ارتفاع الأصوات الشعبية المنتقدة لارتفاع أسعارها وعمليات الاستغلال التي تجري وزيادة نسب التلوث جراء قيام المستثمرين بخلط المازوت بالزيت، فإن الوزارات والمؤسسات الحكومية والوحدات الإدارية المعنية بتلك الشكاوى تحاول في أفضل الأحوال مسك العصا من المنتصف، وليس أدلّ على ذلك من التسعيرة التي أصدرها المكتب التنفيذي في محافظة حلب لضبط عمل الأمبيرات ولم يعمل بها.
والمازوت؟
إحدى النقاط المثيرة للجدل في ملف الأمبيرات تتعلق باستهلاكها مادة المازوت، خاصة وأن البلاد تعاني من نقص حاد في جميع المشتقات النفطية لأسباب باتت معروفة، الأمر الذي يطرح تساؤلات عن مصدر كميات المازوت التي يحصل عليها مستثمرو الأمبيرات، وهي كميات ليست قليلة، فإذا كانت التقديرات المعلنة تتحدث عن استهلاك 1200 مولدة أمبيرات في حلب لأكثر من 140 ألف ليتر يومياً، فنذا يمكن القول، وفي ظل غياب أي تقديرات رسمية أو موثقة، إن استهلاك مولدات الأمبيرات المنتشرة في جميع المحافظات قد تتراوح تقديرياً ما بين 300-500 ألف ليتر، أي ما نسبته حوالي 9% من إجمالي الكميات الموزعة يومياً على جميع القطاعات البالغة حوالي 5.5 ملايين ليتر، والسؤال من أين يتم تأمين هذه الكمية؟
لحسب ما يؤكد مصدر خاص في وزارة النفط والثروة المعدنية لـ”أثر”، فإن توزيع المازوت على جميع الفعاليات ومقدار حاجتها وأولويتها في المحافظات يتم من خلال لجنة المحروقات برئاسة المحافظ، وبموجب محضر شهري ينظم بذلك، إلا أن المحافظات تنفي تزويد مولدات الأمبيرات بالمازوت، لأن ذلك سيكون على حساب إما مخصصات المواطنين أو القطاع الزراعي، وبهذا فإن الخيار المتبقي لمعظم هذه المولدات هو السوق السوداء، والتي تتسبب تبعاً لمستثمري المولدات بارتفاع أسعار الأمبيرات وتباينها بين محافظة وأخرى، وبين شركة وأخرى.
ففي حلب مثلاً تبلغ تعرفة الاشتراك بالأمبير الواحد ما بين 25-40 ألف حسب ساعات التشغيل ووجود تغذية كهربائية حكومية من عدمه، فيما هي في بعض مناطق ريف دمشق تتراوح ما بين 5-6 آلاف ليرة. وهي في جميع الحالات أعلى بنسبة خيالية تصل في أدنى حالاتها إلى 1000% عن تعرفة الاستهلاك المعتمدة للكهرباء الحكومية، وحتى عن تكلفة إنتاج الكيلو واط الواحد حكومياً، وتالياً فإن هناك أرباحاً فاحشة يتم تحصيلها من تجارة الأمبيرات، نفقات وأرباح كان يمكن استثمارها في إعادة تدعيم منظومة قطاع الكهرباء الحكومية ودعمها لاستعادة حضورها وتوفير خدماتها المدعومة للمواطنين الذين بات 91% منهم مصنفين في خانة الفقر، وأكثر من 12 مليون شخص بحاجة إلى مساعدة عاجلة.
خيارات أخرى:
أياً كان ما تقوله الحكومة، فإن ما يحدث على أرض الواقع ليس له من مبرر سوى أن هناك توجهاً حكومياً للانسحاب التدريجي من سياسة دعم الطاقة الكهربائية، وهي خطوة مشابهة لما تم اتباعه في معالجة أسعار المشتقات النفطية خلال السنوات الماضية، حيث كان يتم استغلال الأزمات الحاصلة في توفير تلك المشتقات لرفع أسعارها بحجج غير موضوعية.
أما الحجة التي يتداولها بعض المسؤولين في أحاديثهم وجلساتهم الشخصية في تبرير انتشار الأمبيرات، من أنه لا يمكن ترك المواطن في موضوع الطاقة الكهربائية بلا خيارات، فهي حجة ساذجة غايتها التغطية على أخطر سياسة حكومية، لكن هل هناك خيارات أخرى غير تحكم شركات الأمبيرات برقاب المواطنين؟
هناك عدة خيارات كان يمكن العمل عليها خلال الفترة الماضية، لكنها خيارات تحتاج إلى إدارة حكومية فاعلة وقادرة على استعادة ثقة المواطنين بالأداء الحكومي، من هذه الخيارات ما يلي:
– معالجة الفاقد الفني والتجاري والإنتاجي في إنتاج وتوزيع الطاقة الكهربائية، وهو كفيل بتوفير كمية لا يستهان بها لكن هذا الإجراء يحتاج إلى إدارة فنية حازمة وجريئة قادرة على المواجهة والاعتراف بالحقائق وإيجاد الحلول اللازمة، ووزارة الكهرباء فيها الكثير من الكوادر التي يمكن الاعتماد عليها.
– ما دام التمويل هو أحد المشاكل التي تواجه عملية توسيع الاستثمارات في قطاع الكهرباء الحكومي، فالمقترح أن يصار إلى تشكيل شركة مساهمة تطرح أسهمها على المواطنين للاكتتاب العام وتتولى عملية الاستثمار الداعمة للقطاعات الحكومية، وبدلاً من استنزاف مدخرات المواطنين ومصادر دخلهم وإمكانيات البلاد بشراء البطاريات ودفع فواتير الأمبيرات، كان يمكن توظيفها في مكان آخر يعود بالفائدة على الاقتصاد الوطني وقطاع الكهرباء، إنما عدم ثقة المواطنين بالأداء الحكومي ونزاهة الإجراءات وعمليات الاستثمار يشكل عقبة رئيسية تستوجب المعالجة والمتابعة.
-إذا كانت مولدات الأمبيرات خياراً مؤقتاً لا مفر منه، فلماذا تُرك القطاع الخاص هو الذي يتولى المهمة ويستغل حاجة البلاد والمواطنين؟ ألم يكن من الأفضل لو أن وزارة الكهرباء تولت الملف وفق ضوابط وقواعد محددة وشفافة تحمي حقوق المواطنين من جهة عبر توفير خدمة بأسعار موضوعية ولا تشكل إرهاقاً لذوي الدخل المحدود، وتؤمن إيراداً جيداً للوزارة يساعدها على تمويل مشروعاتها الاستثمارية؟
إضعاف الدولة:
وسواء كانت وزارة الكهرباء تغض الطرف متعمدة عن تجارة الأمبيرات أو أنها عاجزة عن مواجهة من خلفها، فإن عليها أن تعلم أن المنظومة الكهربائية هي إحدى الركائز الأساسية لقوة أي دولة، ولهذا كانت هذه المنظومة هي المستهدف الأول في محاولات إسقاط مؤسسات الدولة السورية.. ولذلك فإن إضعاف منظومة الكهرباء الوطنية، هي محاولة لإضعاف مؤسسات الدولة.