زياد غصن || أثر برس ليس إفشاء لمعلومة القول: إن حجم الدين الداخلي لسوريا وصل بعد 12 عاماً من الحرب إلى أرقام باتت مرعبة، وهذا كان متوقعاً في ضوء الظروف والأوضاع الاقتصادية التي مرت بها البلاد منذ العام 2011 ولا تزال مستمرة، إلا أن الأهم هو في مجالات توظيف هذا الدين، والتي كان وزير الاقتصاد مع بداية الأزمة قد نصح أن تكون حكراً على القطاعات الإنتاجية، وعندئذ لتصل نسبته إلى إجمالي الناتج المحلي الإجمالي إلى قدر ما تريد، ففي بعض الدول الغربية المتقدمة يشكل الدين الداخلي أكثر من 60% من ناتجها المحلي، فكيف الحال مع بلد يعيش حرباً أتت على جميع موارده وبناه الإنتاجية والتحتية؟
هذا الدين المتزايد سنوياً، والذي تبرره الحكومات المتعاقبة بارتفاع فاتورة الدعم الحكومي المقدم لبعض السلع والخدمات الأساسية وتضرر مصادر الإيرادات الرئيسية، كان سبباً في القرارات الأخيرة التي صدرت عن الحكومة، والمتعلقة برفع أسعار المشتقات النفطية بنسب تسببت بحدوث استياء شعبي واسع لكونها جاءت في وقت يعاني فيه السوريون من تأثيرات موجة جديدة من الغلاء، وذلك على خلفية انخفاض سعر صرف الليرة والمستمر منذ عيد الفطر الأخير.
– ثلاثة عوامل:
نادرة هي السنوات التي لم تسجل فيها الموازنة السورية عجزاً مالياً، فمنذ ما قبل الأزمة والموازنات السنوية للدولة تسجل عجزاً تختلف نسبته بين عام وآخر تبعاً لعدة عوامل أهمها: تقلبات أسعار النفط في الأسواق المحلية من ناحية الإيرادات المتوقعة، والتقديرات المتعلقة باعتمادات الدعم الحكومي من ناحية النفقات، لكن غالباً ما كان هذا العجز يسد من خلال احتياطيات البلاد من الليرة السورية، والمقدرة بمئات المليارات من الليرات السورية وفقاً لما ذكره وزير المالية الراحل الدكتور خالد المهايني في حديث خاص مع محرر هذه المادة في العام 2009 ونشر في صحيفة الخبر المحلية، ولذلك قليلاً ما كان يتم اللجوء إلى طباعة المزيد من الفئات النقدية، لكن الباحث الاقتصادي الدكتور شادي أحمد يقدم وجهة نظر أخرى تتقاطع مع ما سبق في بعض النقاط، إذ يؤكد أنه “تاريخياً، وقبل الحرب كان سد عجز الموازنة يتم بالدين الداخلي، والمتمثل بإصدار نقدي من المصرف المركزي إلى وزارة المالية، و لم يكن هناك وسيلة أخرى مثل السندات الحكومية، ولكن هذا الأمر كان يتم في غالبه بشكل محاسبي لأنه لم يحدث أن تم إنجاز أي موازنة حكومية بشكل كامل، بدليل أن قطع الحسابات كان يشير إلى نسب إنجاز ليست مرتفعة، ولا تكاد تصل إلى نسبة العجز الحقيقي”، وبذلك فإن الدين العام الداخلي لم يكن يشكل ظاهرة اقتصادية مقلقة للبلاد، خاصة وأنه كان يعالج غالباً بعيداً عن طباعة المزيد من الأوراق النقدية بفئاتها المختلفة بدليل تحسن سعر صرف الليرة خلال السنوات الأخيرة من العقد الأول.
لكن مع دخول البلاد في أزمتها الكارثية عام 2011، وما رافقها من متغيرات اقتصادية سلبية كانت تزداد سوءاً عاماً بعد عام أخذ الدين العام الداخلي يكبر سنة إثر أخرى، متأثراً في ذلك بثلاثة عوامل أساسية هي: العامل الأول يتمثل في تراجع إيرادات الخزينة العامة للدولة بشكل كبير نتيجة لعدة أسباب يمكن إيجازها بالآتي:
-انخفاض الإيرادات المتأتية من الفوائض الاقتصادية للمؤسسات والشركات الاقتصادية العامة نتيجة تضررها بشكل كامل أو جزئي وتعرض بعضها للتدمير والنهب والسرقة.
-تراجع النشاط الاستثماري والإنتاجي في البلاد، وما سببه ذلك من هبوط كبير في حجم العوائد المالية التي كانت تستفيد منها الخزينة سواء كرسوم وضرائب أو كبدلات استثمار وغير ذلك.
-العقوبات الغربية وما أدت إليه من توقف صادرات البلاد من النفط، ومن ثم خروج حقول إنتاج النفط والغاز عن سيطرة الحكومة.
-تغلغل ظاهرة الفساد في جميع المجالات والقطاعات، لاسيما لجهة التلاعب بعملية استثمار أملاك المؤسسات العامة وعقاراتها والموارد العامة وغيرها.
-فشل الحكومات المتعاقبة في استعادة دوران عجلة الإنتاج في القطاعين الصناعي والزراعي واستسهال وسيلة التمويل بالعجز.
أما العامل الثاني فهو يتعلق بالارتفاع المستمر في النفقات الحكومية، والناجم أساساً عن تزايد الأعباء الملقاة على عاتق الخزينة العامة، والتي فرضتها ظروف الأزمة والحرب، إضافة إلى تراجع القوة الشرائية للعملة المحلية والتضخم الجامح الذي يلتهم أولاً موارد الدولة بمؤسساتها وجهاتها العامة.
العامل الثالث كان مع غياب استراتيجية حكومية واضحة للتعامل مع مسألة الدين الداخلي منذ بداية الأزمة وحتى الآن، إذ إن تباين السياسات والإجراءات المتخذة من قبل الحكومات المتعاقبة منذ العام 2011، والتي غالباً ما كانت تستسهل وسيلة التمويل بالعجز في مقاربتها للفجوة المتشكلة بين الإيرادات والنفقات، أدى إلى تفاقم مشكلة الدين الداخلي في البلاد ليصل اليوم إلى أرقام مرعبة.
– مكمن الخطورة:
تبعاً للغاية التي يستثمر من أجلها، تتحدد ماهية خطورة ظاهرة ارتفاع قيمة الدين الداخلي، ونسبة القلق التي يمكن أن تتسبب بها للاقتصادين على اختلاف تصنيفاتهم كصناع قرار، رجال أعمال ومستثمرين، وباحثينـ لكن في الحالة السورية تبدو المعادلة واضحة المعالم، فالدين الداخلي يتزايد سنوياً بنسبة كبيرة رغم التوجه الحكومي منذ سنوات قليلة إلى طرح سندات خزينة، والأخطر أن مبالغ الدين تستخدم لتمويل أنشطة غير استثمارية يغزو بعضها الفساد والهدر، وكما يضيف الباحث أحمد في حديثه لـ”أثر برس” فإن “تفاقم الدين الداخلي يعتبر أشد خطورة على هيكل الاقتصاد الوطني من الدين الخارجي على المدى البعيد، فهو يؤدي إلى اختلالات هيكلة في البنية المالية والنقدية داخل الاقتصاد، والتي سوف تنعكس حتماً على البنية الإنتاجية والاستثمارية لأن الدين الداخلي موجه لسداد متطلبات الإنفاق الجاري (والذي ليس له عائد مادي) أما الدين الخارجي موجه لغايات استثمارية أو تحسين البنى التحتية (وبالتالي لا يشكل عبء طويل المدى في حال وجود إدارة سليمة ولم يدخل الفساد في إدارة القرض) وسابقا كانت موازنة الإستثمار توازي موازنة الإنفاق الجاري لذاك كان التضخم يتحول من تضخم سلبي إلى تضخم حميد، وهذا يعيد التوازن”.
ويتابع حديثه قائلاً: “حالياً لا يوجد موازنة استثمارية حقيقية لكي توجه الكتلة النقدية الفائضة إلى كتلة إنتاجية، وهذا سيؤدي إلى فقدان الليرة لأهم أدوارها كوسيلة ادخار ووسيلة استثمار محتفظة بدورها كوسيلة تداول فقط”.
من جانبه يؤكد الدكتور ذو الفقار عبود الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة اللاذقية إنه “لا تتوافر أرقام رسمية حول حجم الدين العام لسوريا، لكن وحسب بعض البيانات الرسمية وتقديرات صندوق النقد العربي، فإنَّ إجمالي الدين العام ليس ثابتاً بل هو رقم متذبذب صعوداً وهبوطاً، فقد بلغ حجم الدين الداخلي على الحكومة السورية 1.1 تريليون ليرة سورية (عند سعر صرف الدولار يساوي نحو 4900 ليرة)، ولا سيما بعد طرح وزارة المالية مزاد بقيمة 83 مليار ليرة لشراء سندات وأذونات خزينة عبر بورصة دمشق استناداً إلى القانون رقم 60 لعام 2007″.
ويضيف في حديثه لـ”أثر برس” أنه إذا أضفنا “الديون التي أعلنت عنها الحكومة العام 2021، والبالغة حوالي 465 مليار ليرة سندات خزينة وشهادات إيداع لديون العام الماضي، فنحن أمام ديون داخلية لموازنة العام الجاري تبلغ 1.3 ترليون ليرة سورية، علماً بأن هناك تقديرات ترفع هذا الرقم إلى حوالي أربعة تريليونات ليرة سورية. والمعلن حكومياً من هدف طرح السندات هو تمويل الإنفاق الاستثماري بالموازنة العامة وتأمين فرص استثمارية للقطاع المصرفي، في حين يعتقد بعض الاقتصاديين بأن الهدف هو تمويل الشق الجاري بالموازنة لتسديد الأجور في القطاع العام بدليل عدم قدرة الحكومة على زيادة الأجور لفترة طويلة تعدت السنة، فضلاً عن ضعف قدرتها على الاستيراد أو حتى التدخل المباشر لإسعاف الليرة السورية التي تراجعت إلى أكثر من عشرة آلاف ليرة مقابل الدولار الواحد”، لكن في المصلحة فإن كلا طرفي عملية الاقتراض الداخلي خاسراً، إذ وفقاً للدكتور عبود “الدائن أو مشتري السندات خاسر حكماً ومهما بلغت نسبة الفائدة، لأن نسبة التضخم السنوي لليرة تلتهم أي معدل فائدة ولو كان مرتفعاً، كما أن الطرف المدين خاسر، لأنها تمول عجز الموازنة عبر دين داخلي، يتم إنفاقه على الأجور والنفقات الجارية، من دون إقامة مشروعات استثمارية يمكن أن تؤمن عائدات توازي على الأقل سعر الفائدة”.