زياد غصن || أثر برس مشاعر عدة تنازع السوريين حيال ما يحدث في السودان. إلا أن جميعها تتفق أو تلتقي عند عتبة الحزن لما حل بهذا البلد العربي من فقدان للأمن والاستقرار بمختلف مستوياته. وهذا بغض النظر عن موقف الفرقاء السياسيين السوريين (حكومة ومعارضة) من طرفي النزاع، المؤيد للجيش السوداني أو لقوات التدخل السريع.
منذ بداية النزاع السوداني قبل أسابيع قليلة، والاهتمام السوري، شعبياً وإعلامياً، يتركز على متابعة أخبار الجالية السورية الكبيرة المقيمة في ذلك البلد منذ سنوات عدة، والإجراءات المتخذة رسمياً لمساعدة أفراد الجالية للخروج سالمين، خاصة مع تسجيل وفيات عدة لسوريين جراء المعارك الدائرة في مناطق مختلفة من السودان، وتعرض كثيرين لأعمال ابتزاز مالي لمنحهم الموافقة للتنقل بين الولايات بحثاً عن مخرج يوصلهم إما إلى الحدود مع مصر أو إلى إحدى المنافذ البحرية للانتقال منها إلى السعودية، إذ إن بعضهم اضطر لدفع ما بين 1500-5000 دولار للوصول إلى الحدود مع مصر، حيث يفترش الهاربون من جحيم القتال العراء، وفي ظل غياب أصغر مستلزمات البقاء، أو للوصول إلى مدينة بورتسودان على أمل الصعود بإحدى السفن السعودية التي تنقل مواطني دول عدة إلى مدينة جدة.
البلد الوفي للسوريين
ينطلق السوريون اليوم في تعاطفهم مع الشعب السوداني، وإلى جانب رابطة العروبة التي ما تزال حاضرة على الرغم مما شهدته علاقات دمشق مع الدول العربية في سنوات الحرب من قطيعة وجفاء كبيرين، من عاملين اثنين:
-العامل الأول يتمثل في احتضان السودان رسمياً وشعبياً للسوريين النازحين عن بلادهم بفعل الحرب وتداعياتها المدمرة؛ فالسودان ظل حتى وقت قريب جداً يستقبل السوريين المسافرين إليه من دون الحاجة إلى الحصول مسبقاً على تأشيرة دخول، وليكون بذلك من بين الدول القليلة جداً على المستوى العالمي التي لم تتشدد في إجراءات السماح بدخول المواطنين السوريين إلى أراضيها. هذا فضلاً عن الترحيب الشعبي الواسع بوجود السوريين. والمزايا والتسهيلات التي منحت لهم في الإقامة، والعمل، والانتقال، والاستثمار، والتعليم
لذلك كان من الطبيعي أن يتعاطف السوريون على اختلاف موافقهم وانتماءاتهم السياسية مع مواطني البلد الذي فتح لهم، ولسنوات طويلة، ذراعيه على الرغم من أوضاعه الداخلية الصعبة التي عانى منها، سواء في أثناء حربه مع حركات التمرد والانفصال أم بعد إسقاط نظام الرئيس عمر حسن البشير. ويتراوح عدد السوريين المقيمين في السودان وفق بعض التصريحات الرسمية السورية ما بين 30-90 ألف شخص، وقبل سنوات عدة وصل هذا العدد إلى أكثر 150 ألفاً، حيث كان يصل شهرياً إلى السودان ما يقارب ألف مواطن سوري. وبذلك تكون الجالية السورية من أكبر الجاليات العربية الأجنبية الموجودة في السودان.
-أما العامل الثاني فيتمثل في تجربة الحرب المرة التي مر بها السوريون منذ العام 2011، وما تسببت به من خسائر بشرية، واقتصادية، واجتماعية مهولة، ما تزال تداعياتها مستمرة إلى اليوم. ولذلك فإن ما يرد من أخبار وصور للقتال الدائر في السودان ومشاهد للدمار والنزوح يحدث أثراً مؤلماً في نفوس جميع السوريين، الذين يستذكرون ما عاشوها من مآس وأوقات رعب وخوف، وتالياً فهم يتعاطفون مع أخواتهم السودانيين الذين يمرون اليوم بالمآسي نفسها، ويتخوفون من استمرار القتال لمدة زمنية أطول، وتالياً وصول السودان إلى ما وصلت إليه سوريا من خروج مناطق عن سيطرة الدولة، تعاظم التدخل الإقليمي والدولي في شؤونها الداخلية، واضطرار ملايين الأشخاص إلى النزوح عن منازلهم ومناطقهم، وربما بلادهم أيضاً.
التطبيع ليس خياراً
في المقاربة السياسية لما يحدث، تخلص وجهات نظر وآراء السياسيين السوريين من متابعين ومحللين إلى أن هناك استنتاجات عدة يمكن استخلاصها من الأزمة الجديدة التي تهدد السودان دولة وشعباً. ومن أهم تلك الاستنتاجات ما يلي:
-وجود دافع خارجي يستهدف تعزيز حالة الانقسام وعدم الاستقرار التي يعيشها السودان منذ عقود عدة، والتي أثمرت منذ سنوات عن انفصال جنوبه، وسوريا واحدة من الدول التي لم تعترف إلى اليوم بجنوب السودان. والغاية من ذلك إبقاء السودان الغني بثرواته وإمكانياته الاقتصادية في حالة استنزاف طويلة الأمد. وعليه فمن غير المستبعد أن يصار إلى محاولة تقسيم السودان مجدداً كما جرى سابقاً، وكما يخطط له اليوم من مشروعات في دول عربية أخرى وأفريقية.
-عدم جدوى خيار التطبيع مع الكيان الإسرائيلي؛ فالخطوات السياسية التي أقدمت عليها الخرطوم منذ العام 2020، من فتح قنوات تواصل مباشرة مع تل أبيب واستقبال مسؤولين إسرائيليين، وقرب التوصل إلى مسودة اتفاق للتطبيع الكامل بين السودان والكيان الإسرائيلي، لم تؤد إلى رفع العقوبات الغربية المفروضة على السودان.
كما أنها لم تسهم في تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد، لا بل إنها زادت حدة الانقسام الحاصل بين القيادة العسكرية الحاكمة والفئات الشعبية الرافضة للتطبيع مع تل أبيب، والدليل ما حصل مؤخراً من نزاع، يبدو في ظاهره داخلياً، إلا أن دوافعه في واقع الأمر ليست كذلك. إضافة إلى النشاط المتزايد والكبير للموساد الإسرائيلي في السودان وجواره.
– هناك من يعتبر أن تمسك العسكر بالسلطة، وتغيبهم للحوار، واستبعادهم للحراك المجتمعي السياسي والمدني عن المشاركة في مناقشة القضايا الوطنية الرئيسية، لن يجلب معه إلا الانقسام وتردي الأوضاع العامة، ويشكل مبرراً للخارج للتدخل في الشؤون الداخلية بحجج وعناوين مختلفة. على حين يمكن تجاوز كل ذلك بفتح حوار وطني يحافظ على مؤسسات الدولة السودانية، ويوحدها في مواجهة تحديات كبيرة أهمها: سوء الأوضاع الاقتصادية التي يعيشها الشعب السوداني منذ عقود عدة على الرغم من الإمكانيات الطبيعية والبشرية الكبيرة التي تمتلكها البلاد، والتهديد الذي يطال اليوم وحدة أراضي البلاد.
-وجود مخاوف حقيقية من إمكانية خروج النزاع من نطاقه الحالي، إلى حرب أهلية بين القبائل السودانية يصعب عندئذ السيطرة عليها. سيما وأن التجارب الإفريقية في مسيرة الحروب الأهلية واضحة لجهة حجم الخسائر البشرية والاقتصادية التي تتسبب بها، والمدة الزمنية الطويلة التي تستغرقها. وفرص تحقق ذلك تكبر مع تأخر الحل بين القوى المتصارعة وتصاعد التحريض بينها.