يستذكر السوريون هذه الأيام حكاية وفد أجنبي زار البلاد في الثمانينيات، وغادرها وهو يضرب أخماسه بأسداسه حائراً حيال بلد محاصر، لا ينتج إلا القليل، ومع ذلك فالناس فيه لايزالون يحافظون على أشكال الحياة.. يرسلون أولادهم للمدارس، يذهبون إلى أعمالهم، ويخرجون أيام العطل لافتراش المسطحات الخضراء والتنزه… وغير ذلك.
حكاية قد لا تكون قد حدثت بالفعل، إنما هي تعبير عن حجم التساؤلات الكثيرة التي تراود حالياً مخيلة الكثيرين من قبيل: كيف يتدبر السوريون أمورهم المعيشية في ظل الفجوة الهائلة بين متوسط الأجور والرواتب وبين الأسعار ومتطلبات الحياة اليومية؟ وما هي فرصة العمل التي بمقدورها أن تؤمن للأسرة شهرياً ما يزيد على 700 ألف ليرة لتعيش “مستورة”؟ وكم هي عدد ساعات العمل يومياً التي يضطر الكثيرون إليها؟
طبعاً ليست هناك أجوبة على هذه التساؤلات وغيرها سوى ما يردده باحثون ومهتمون بالشأن الاقتصادي خلال لقاءاتهم الإعلامية ومشاركتهم في بعض الندوات الاقتصادية، لا بل أن الأبحاث والدراسات العلمية في هذا المجال تبدو نادرة أو غائبة تماماً.
واحد.. اثنان… وثلاثة!
بات الحديث عن انتشار الفقر بنسب عالية بين السوريين أمراً اعتيادياً في ضوء التدهور المستمر في الوضع المعيشي، ولم يعد القول إن 90% من السوريين أصبحوا في دائرة الفقر مفاجئاً أو صادماً ما دامت البيانات الرسمية هي التي تتحدث عن أن 5.1% فقط من إجمالي عدد الأسر السورية المقيمة في الداخل آمنة غذائياً، وباقي الأسر إما أنها تعاني من انعدام شديد أو متوسط في أمنها الغذائي، أو أنها تصنف في الطبقة الهشة المعرضة مع أي تحول أو متغير معيشي للانزلاق إلى دائرة انعدام الأمن الغذائي.
لكن في ظل تضرر النشاط الإنتاجي والخدمي في البلاد، تعرض الممتلكات الشخصية للنهب والتخريب، فقدان آلاف فرص العمل، وإنفاق الكثيرين لمدخراتهم خلال سنوات الحرب الطويلة، فإن هناك سؤال من الضروري طرحه في هذه المرحلة عسى أن يتم البناء عليه لتحديد ماهية السياسات الاقتصادية والاجتماعية المفترض تنفيذها لوقف حالة الانهيار في المستوى المعيشي لشريحة ليست بالقليلة.. والسؤال هو: ما هي مصادر دخل السوريين اليوم؟
تكشف دراسة أعدت لصالح اللجنة الدولية للصليب الأحمر ، وشملت 1400 شاب سوري تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاماً وصدرت نتائجها مع مرور عشر سنوات على بدء الحرب السورية، أن واحداً من كل ستة شبان، وواحدة من كل ثلاث شابات، محروماً تماماً من أي مصدر للدخل، ويكافح حوالي أربعة من كل عشرة شبان للحصول على الطعام، ويكافح سبعة من كل عشرة للحصول على الكهرباء. وتضيف الدراسة أن أسر المبحوثين الشباب نجحت في التكيف مع هذا الوضع من خلال إنفاق مدخراتهم 76%، بيع البضائع أو الأصول 65%، الحصول على وظائف جديدة 55%، وأحياناً قبول أشكال عمل شديدة الخطورة ومهينة اجتماعياً 16%.
تتوضح أكثر ملامح مصادر دخل السوريين مع ما توصل إليه مسح الأمن الغذائي، الذي جرى بنهاية العام الماضي. وأشارت بياناته إلى أن 37.3% من الأسر المعيشية تعتمد في إنفاقها على مصدر دخل واحد، في حين شكلت الأسر التي تعتاش على مصدرين للدخل ما نسبته 43.9%، وهناك 18.9% من الأسر لديها ثلاثة مصادر للدخل وأكثر.
وعلى صعيد التوزع الجغرافي، تظهر البيانات أن محافظات الحسكة، حلب، دير الزور، ودمشق سجلت أعلى نسب في عدد الأسر التي تعتمد في إنفاقها على مصدر دخل وحيد، حيث بلغت تلك النسب على التوالي 56%، 54%، 45%، و49% من إجمالي عدد الأسر في كل محافظة. أما بالنسبة للأسر التي تعتمد على مصدرين للدخل فقد كان أعلى نسبة لها في محافظات: حماة 51.9%، اللاذقية 49%، وريف دمشق 47.9%. وحافظت حماة على صدارتها لقائمة المحافظات في الأسر التي تعتاش على ثلاثة مصادر حيث بلغت النسبة فيها 31%، ثم جاءت محافظات حمص بحوالي 29.4% ، السويداء 28.9%، واللاذقية 25.6%.
الرواتب والأجور أولاً!
على عكس ما قد يتبادر لذهن البعض، فإن الأسر التي لديها مصدر دخل واحد تتمتع بمستويات أمن غذائي أفضل نسبياً من الأسر التي تعتمد على مصدرين أو ثلاثة مصادر للدخل، وهو أمر يفسره الباحثون الذين أشرفوا على تنفيذ المسح “بأن الأسر التي لديها مصدر وحيد للدخل يحقق لها نوعا من الكفاية، هي غالباً تقع في فئات مصادر دخل العمالة الماهرة أو أصحاب العمل، في حين تضطر الأسر التي لا يكفيها مصدر واحد لتلبية متطلباتها المعيشية إلى عمل إضافي ومصادر دخل إضافية، أو أن يعمل أكثر من شخص في الأسرة كالزوج أو الأولاد”.
ومن ناحية أخرى، فإن وجود أكثر من 2.4 مليون شخص يعملون بأجر لدى الحكومة أو القطاع الخاص من إجمالي عدد المشتغلين البالغ حوالي 3.7 ملايين شخص يجعل الأسرة السورية تعتمد أساساً في دخلها على الرواتب والمعاشات التقاعدية، حيث “يعتبر الدخل الذي تكسبه الأسرة الأساس الجوهري في تأمين أبسط متطلبات شروط الحياة الكريمة”. وقد بلغت نسبة الأسر التي تعتمد عليها في عيشتها حوالي 27.7 %، تلي ذلك الأسر التي تعتمد على الاستدانة أو الإقتراض لتلبية مستلزماتها الغذائية بنسبة 11.5 %، تليها الأسر التي تعتمد في دخلها على بيع المحاصيل وتربية الحيوانات وصيد السمك، حيث بلغت نسبتها 9 %، ثم العمالة الماهرة لأفرادها بنسبة 7.2 %، كما يعتمد حوالي 4.5 % من الأسر على التحويلات الخارجية.
لذلك يبدو أن الحكومة، وبناء على هذه النتائج، تضع في مقدمة استراتيجية تحسين المستوى المعيشي للمواطنين، والتي لم تنجح حتى الآن، زيادة الرواتب والأجور للعاملين في الدولة وإلزام القطاع الخاص برفع الحد الأدنى من الأجور لديه. والتسريبات الخاصة التي حصل عليها موقع “أثر برس” تشير إلى إمكانية وجود زيادة قريبة على الرواتب والأجور للعاملين في الدولة قبل نهاية العام الحالي. لكن هل هذه الزيادة ستكون كافية لانتشال أسر كثيرة من دائرة انعدام الأمن الغذائي إلى دائرة الأسر الآمنة غذائياً؟