زياد غصن || أثر برس قبل عامين ونصف العام تقريباً، وضعت الحكومة لنفسها أحد خيارين في تعاملها مع تقلبات سعر الصرف، وأثرها السلبي على الأوضاع المعيشية في البلاد: إما توجيه جهودها كافة لضبط سعر الصرف ومحاولة المحافظة على استقراره من خلال اتخاذ جملة إجراءات كالعمل على “مسك” السيولة النقدية في الأسواق المحلية عبر تحديد سقف السحوبات اليومية للمتعاملين مع المصارف، منع نقل الأموال بين المحافظات بما يزيد على مبلغ معين، إضافة إلى حصر جميع طلبات تمويل المستوردات بما سمي “المنصة”.
ومثل هذا الخيار قد ينجح في منع الأسوأ على صعيد سعر الصرف، والحد تالياً من التضخم وتدهور أكثر للأوضاع المعيشية، إلا أنه في المقابل سيلحق ضرراً بالنشاط الاقتصادي في البلاد يصل إلى حد الانكماش الإنتاجي.
أما الخيار الثاني، فتمثل بإبقاء الوضع على ما هو عليه لجهة وضع السيولة النقدية في السوق المحلية، وما يعنيه ذلك من إمكانية حدوث انخفاض جديد في سعر الصرف ينعكس سلباً على مستويات أسعار السلع والبضائع المعدة للاستهلاك المحلي، وفي هذه الحالة سيكون المستفيد هو قطاع الأعمال الذي سوف يحافظ على نشاطه الإنتاجي والتجاري، لكن الخاسر مؤقتاً سيكون الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، لاسيما في ظل غياب شبكات الحماية الاجتماعية.
في ضوء ذلك لم تتردد الحكومة في تطبيق الخيار الأول متأثرة بالمخاوف من التداعيات الاجتماعية فيما لو انحازت لتطبيق الخيار الثاني، لكنها وعلى مدار الأشهر السابقة فشلت ولأسباب عدة في المحافظة على استقرار سعر صرف الليرة، والذي سجل على مدار الأشهر الماضية معدلات انخفاض قياسية، كما أن الأوضاع المعيشية تدهورت بأضعاف ما كانت عليه منتصف العام 2021 تاريخ العمل بهذا الخيار، إضافة إلى الأثر المتوقع والمتعلق بتراجع الإنتاج المحلي، وهذا ما أعاد فتح النقاش مجدداً حول مدى صوابية ما فعلته الحكومة، والإجابة على سؤال واضح: هل يجب الاستمرار بهذا الخيار مع ضبط أكثر للإجراءات أم أن هناك حاجة للعودة إلى تنفيذ الخيار الثاني باعتباره واحداً من بديهيات العمل الاقتصادي؟
– من يجر من؟
ضبط سعر الصرف هو أحد الأهداف الرئيسية للسياسات الاقتصادية التي تتبعها جميع الدول، لكن ثمة فرق كبير بين تسخير جميع موارد اقتصاد الدولة لتحقيق ذلك كما فعلت سوريا في فترة الحرب، وبين أن يكون ذلك إحدى نتائج سياسات تنشيط القطاعات الاقتصادية.
ويستدل أستاذ السياسات المالية والنقدية في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور إلياس نجمة على ذلك بما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية بداية سبعينيات القرن الماضي، ففي أعقاب الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي ضربت البلاد آنذاك قيلت عبارة شهيرة: هل الدولار في خدمة أمريكا أم أمريكا في خدمة الدولار؟، و”تالياً فإن الجواب على السؤال المطروح حالياً: هل ضبط سعر صرف الليرة السورية أهم من تحقيق النمو الاقتصادي؟ هو بالنفي، إذ إن استقرار سعر الصرف لا يعني أن النمو سوف يتحقق، بينما إذ حدث نمو حقيقي فإنه سوف يحسن من سعر صرف الليرة، وهذا مؤكد ولا يختلف عليه اثنان”.
ويضيف في حديثه لـ”أثر” أن المادة الأولى من النظام الداخلي لمصرف سوريا المركزي “تتضمن ثلاث مهام أساسية هي: الحفاظ على استقرار الأسعار، تحقيق النمو، واستقرار سعر الصرف”، متسائلاً بناء على ذلك: “إذاً لماذا نريد إقامة وضع مصطنع بين سياسات سعر الصرف وبين سياسات النمو، فيما هي عملياً سياسات متكاملة فيما بينها، وتستعمل أحياناً في خدمة بعضها البعض، لا بل إن 90% من سياسات وإجراءات تشجيع النمو لا تتعارض مع سعر الصرف”.
وهذا ليس رأي الأكاديميين فقط، إذ إن عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق محمد حلاق يشير إلى أن “سعر الصرف هو مؤشر هام وتخفيض المستوردات والتقشف هو أمر هام جداً، شريطة ألا يتم تهريب أي مادة وشريطة توفر المواد الأساسية بسعرها الحقيقي مضروبة بسعر صرف حقيقي، مضافاً إليه التكاليف كافة وهوامش الربح المنطقيةـ بيد أن ما يحدث حالياً من تشوهات سعرية وانخفاض في واردات الخزينة من أجل لجم ارتفاع سعر الصرف هو مستغرب، لا شك أن زيادة المستوردات من البذور ولمكننة الزراعية والمواد الأولية اللازمة للصناعة سيضغط على سعر الصرف بداية، ولكنه لن يستمر طويلاً بعد تحقيق زيادة في الإنتاج، وزيادة في التوظيف وتنشيط الاستهلاك المحلي من خلال زيادة الدخول بشقيها الزراعي والإنتاجي”.
لكن ما يخيف فعلياً في الحالة السورية أن الانفتاح على خيار تنشيط الوضع الاقتصادي سيكون محفوفاً بمخاطر قد لا تكون البلاد قادرة على تحملها في الوقت الراهن، لاسيما لجهة التوقعات بإمكانية حدوث انخفاض مؤقت على سعر صرف الليرة، وتالياً حتمية زيادة معدلات التضخم والغلاء المعيشي بشكل كبير، الأمر الذي يتطلب العمل على بناء شبكة حماية اجتماعية من ناحية، ومعالجة العوامل غير الموضوعية لأي انخفاض يطرأ على سعر الصرف.
– اتركوا العقارات:
الخطوة الأولى في أعقاب حسم مسألة التوجه الحكومي نحو تشجيع النمو الاقتصادي في البلاد، تكمن في تحديد القطاعات الاقتصادية المستهدفة تدريجياً بالنمو، إذ لا يمكن العمل دوماً بأسلوب “الصدمة”، وهذه نقطة يدور حولها اليوم نقاش لا يزال محدوداً، فهناك من يعتقد بأولوية الصناعة باعتبارها المتضرر الأكبر من الحرب والسياسات الحكومية الحالية، وهناك من يقول إن سوريا في النهاية هي بلد زراعي.
لكن الدكتور نجمة يذهب إلى خلاف ذلك، مشيراً إلى أن تعظيم النشاط الاقتصادي بمختلف جوانيه يمكن أن يتم من خلال “السماح للقطاع العقاري بالعمل والنشاط من جديد، وهذا ليس باختراع جديد، ففي فرنسا هناك مقولة شهيرة مفادها أنه عندما تمشي المباني فإن كل شيء سوف يمشي، وفي الولايات المتحدة الأمريكية العقارات هي الأساس وتحديداً بعد الحرب العالمية الثانية، فالسيولة تذهب حيث تكون الريعية أعلى، وهي تعرف طريقها تماماً”.
ويتابع أن الإجراء الثاني يكمن في “تحرير التجارة الخارجية استيراداً وتصديراً، إذ لا يمكن تنمية الإنتاج المحلي في ظل قرارات مقيدة للاستيراد وإجراءات بيروقراطية معقدة، سيقول البعض إن ذلك سيرفع سعر الصرف، وهذا صحيح لكنه سرعان ما سيعاود استقراره، ثم لماذا لا نريد الاستفادة من آليات السوق أو إدخالها في الفعل الاقتصادي”، محذراً في ختام حديثه من “اقتراب أصحاب المصالح الاقتصادية من مواقع القرار الاقتصادي” معتبراً ذلك أكبر خطر يهدد الأمن الاقتصادي الوطني.
وخلص الحلاق في حديثه لـ”أثر” إلى أنه “يجب الاتفاق على أن الاستنزاف أمر مرفوض، و بالتالي فإن دفع ثمن سلعة بأغلى من قيمتها هو أمر غير مبرر في وضعنا، فأيهما أفضل الاستمرار في إصلاح آلية وضعها سيئ بقيمة 2000 دولار سنوياً ومعرضة للارتفاع أكثر، أو استبدالها بألية قيمتها 4000 دولار عمرها أقل من 3 سنوات، ولكنها لن تحتاج إلى أي نفقات صيانة قبل أكثر من 5 سنوات”.