مشهدان يمكن لأي سوري أن يصادفهما يومياً. الأول مطاعم ومقاه ممتلئة بالزبائن والرواد حتى ساعات الفجر الأولى، ويصبح المشهد أكثر وضوحاً في مناطق الاصطياف مع عطلة نهاية الأسبوع، وعلى شاطئ البحر هذه الأيام. أما المشهد الثاني فيمكن رؤيته أمام الجمعيات الخيرية المعروفة في جميع المناطق، وأمام مقار مؤسسة الهلال الأحمر المعنية بتوزيع المساعدات الإنسانية، حيث يصطف كثيرون من الجنسين، ومن مختلف الأعمار، للحصول على مخصصات محدودة، لكنها تعينهم على تأمين بعض احتياجات البقاء.
ومع أن بعض وسائل الإعلام بمختلف أشكالها حاولت مقاربة المشهدين بطريقة ما، إلا أنها كانت تنطلق دوماً من محاولة تفسير الظاهرة لجهة مدى مصداقية الحديث العام عن وجود فقر في البلاد، فيما المشهدين ليسا سوى انعكاس لخلل اقتصادي قديم تحول إلى كارثة اقتصادية خلال سنوات الحرب. هذا الخلل يتمثل في التفاوت الكبير الحاصل في توزيع الدخل، وهو بحسب الدكتور رسلان خضور “من أهم الأسباب التي تجعل المواطنين أقل ثقة ببعضهم بعضاً، وأقل ثقة بالحكومة، وبالنظام السياسي والاقتصادي القائم، إنَّ التفاوت الكبير في التوزيع وعدم الإنصاف يعد واحداً من معيقات النمو الاقتصادي. نحن بحاجة إلى إعادة بناء الثقة بالدولة ومؤسساتها من جديد، وإحدى قنوات إعادة بناء الثقة هي مسألة الإنصاف في التوزيع”.
أوجه متعددة
ليس الأمر بحاجة إلى كثير من العناء للدلالة على عمق التفاوت الحاصل في توزيع الدخول والثروات، إذ تكفي الإشارة إلى أن متوسط الأجر الشهري للعامل البالغ تقديرياً حالياً 66 ألف ليرة، لا يشكل سوى أقل من 10% من إجمالي ما يجب أن تنفقه الأسرة شهرياً على شراء احتياجاتها من السلع والمواد المنتجة محلياً أو المستوردة، والمقدرة في حدها الأدنى بحسب باحثين بأكثر من 600 ألف ليرة. وبالنظر إلى كون العاملين بأجر يشكلون النسبة الأكبر من إجمالي عدد المشتغلين، حيث بلغت نسبتهم وفق نتائج مسح قوة العمل عام 2019 حوالي 64%، فيما لم تتجاوز نسبة فئة صاحب عمل أكثر من 10%، فهذا يعني أن نصيب العاملين بأجر من إجمالي الدخل القومي تتضاءل مع مرور الوقت تحت ضغط عاملين: الأول ارتفاع معدل التضخم المستمر لأسباب باتت معروفة، والثاني يتمثل في ثبات متوسط الأجور والرواتب مقابل ارتفاع تكاليف الإنتاج والربح والبيع للسلع والخدمات المنتجة، لاسيما رواتب وأجور مؤسسات الدولة والقطاع العام وجزء ليس بالقليل من القطاع الخاص. والصورة كانت ستكون أوضح لو توفرت تقديرات إحصائية حول قيمة الكتلة الشهرية للرواتب والأجور التي تدفع في القطاع الخاص، إذ أن اعتمادات هذا البند بالنسبة للعاملين في الدولة، والذين يشكلون نسبة وقدرها 42.1% من إجمالي عدد العاملين، يصل إلى 502 مليار ليرة في موازنة العام الماضي، وهو رقم يشكل ما نسبته 4.3% فقط من إجمالي قيمة الدخل القومي بأسعار السوق لعام 2019. ولابد من الإشارة هنا إلى وجود تفاوت واضح أيضاً في أجور فئة العاملين بأجر أنفسهم، سواء بين أجور العاملين في الدولة والقطاع العام وبين أجور نظرائهم في القطاع الخاص، ومن ثم داخل القطاع الخاص نفسه، فمثلاً سقف راتب الموظف الحكومي الذي بلغ سن التقاعد قد لا يتجاوز 70 ألف ليرة، فيما راتب مدير مالي في مؤسسة خاصة قد يتجاوز 600 ألف ليرة شهرياً وهكذا.
حدة التفاوت في توزيع الدخل تظهر كذلك من خلال معدلات انتشار الفقر وواقع الأمن الغذائي، وكما هو معلوم فإن معدل الفقر في سوريا شهد خلال سنوات الحرب زيادة كبيرة تتجاوز اليوم بحسب التقديرات غير الرسمية نسبة 90%، في حين أن المسح الأخير للأمن الغذائي أظهر أن 8.3% من الأسر السورية تعاني من انعدام شديد في أمنها الغذائي، في حين أن 47.2 % من الأسر صنف أمنها الغذائي في خانة الانعدام المتوسط، وفقط 39.4 % من الأسر المبحوثة قيل إنها تتمتع بأمن غذائي مقبول، إلا أنها تبقى معرضة لانعدام أمنها الغذائي نتيجة أي صدمة. أما الأسر الآمنة غذائياً فإن نسبتها لم تتعد 5.1%. وهذه العلاقة كانت واضحة أيضاً في فترة ما قبل الحرب تبعاً لدراسة أنجزها المركز السوري لبحوث السياسات وقال فيها: “رغم أن المعدل الوسطي لانتشار الفقر لم يكن شديد الارتفاع، إلا أن معدل الفقر الإجمالي كان قد ارتفع بين العامين 2004 و2009 مع تراجع معدل الإنفاق الحقيقي للفرد بنسبة 2%، مع أن الناتج المحلي الإجمالي نما خلال الفترة ذاتها بمعدل وسطي بلغ 4.4%، وكان ذلك برهاناً واضحاُ على أن النمو لم يكن مناصراً للفقراء”.
على المقلب الآخر، كانت الشريحة المستفيدة من الدخل القومي تعزز من قبضها على الثروات والموارد الوطنية وإن تبدلت الوجوه والأسماء، إذ أن المشكلة لم تعد فقط في تفاوت توزيع الدخل وإنما في التمركز الشديد للثروات والموارد بيد طبقة مجتمعية قليلة من جهة، وفي الوجوه “الثرية” الجديدة التي قامت بتحييد بعض المستفيدين السابقين لصالحها من جهة ثانية. وهؤلاء لا يخفون أنفسهم، بل على العكس من ذلك هم يحرصون على استعراض دائم لمظاهر الثروة والنفوذ وبشكل غير معتاد، كما ويتفننون في ممارسة طقوس خيالية من التهافت الاستهلاكي.
إرث قديم!
تتحمل السياسات الاقتصادية المطبقة في فترة ما قبل الحرب وخلالها جزءاً كبيراً من المسؤولية عن التفاوت الحاصل في توزيع الدخول، وكما يرى الأستاذ الدكتور منير الحمش فإن بعض أسباب عدم المساواة والعدالة تعود الى ما قبل الحرب ثم زادت واشتدت حدتها مع الحرب، وتكمن في مجموعة متشابكة من التحولات تلخصها عملية التحول من اقتصاد موجه الى اقتصاد السوق. واعتماد السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة، وتالياً تغير الحامل الاجتماعي للنظام الذي كان العمال والفلاحين وصغار الكسبة، فأصبح القطاع الخاص والسماسرة وما يدعى رجال الأعمال، وبعد الحرب أضيف تجار الحرب وأمرائها”. ويضيف في حديثه لموقع “أثر برس” أن السياسات الاقتصادية والانفتاح الاقتصادي وتحرير الأسواق والأسعار أدت إلى البطالة، التضخم، رفع الأسعار والضغط على أسباب عيش المواطن، وهذه جميعها أدت إلى زيادة فقر الفقراء وزيادة غنى الأغنياء وتالياً زادت الفجوة من اتساعها بين الفقراء والأغنياء، وزادت أكثر مع الارهاب، العمليات الحربية. الفساد، والعقوبات الاقتصادية التي وصلت إلى حد الخنق الاقتصادي”.
وربما تكون السياسة الضريبية المتبعة عبر سنوات طويلة، وما رافق ذلك من فساد وتواطؤ على حقوق خزينة الدولة، أحد الأسباب المؤدية لتفاوت توزيع الدخل، وبحسب ما يذكر الدكتور خضور في دراسة نشرها مركز دمشق للأبحاث والدراسات فإن “التفاوت الحاد في توزيع الدخول يفرز تفاوتاً كبيراً في توزيع الثروات ، والأجور هي التي تتحمل العبء الأكبر من العبء الضريبي. والملفت طوال السنوات العشر الماضية هو تزايد نسبة ضرائب الرواتب والأجور من إجمالي الضرائب المباشرة، إذ كانت بحدود 5% طوال السنوات السابقة للحرب، وتزايدت بشكل مطرد لتصل إلى 20.8 % في عام 2017”. ويضيف “عملياً يدفع أصحاب الرواتب والأجور ضريبة تصاعدية حقيقية، في حين تدفع الشركات ضرائب تنازلية وفي أحسن الأحوال مبالغ ثابتة لا علاقة لها بالدخول الحقيقية. يبلغ معدل الشريحة الأعلى في ضريبة الرواتب والأجور 22 %، في حين يبلغ متوسط معدل الضرائب على الشركات 22 %، ويبلغ معدل ضريبة الأرباح للشركات المساهمة 14 % من دون التهرب الضريبي، أما في الواقع، ومع التهرب الضريبي، تصبح معدلات الضرائب على الشركات أقل من معدلات الضرائب على دخل العمل”.
الدعم
وحتى عندما جاءت سياسة الدعم الحكومي للتخفيف من انعكاسات تفاوت توزيع الدخل على شرائح اجتماعية معينة، فإن السمة التي طبعت عملية تنفيذها طيلة العقود الماضية تمثلت في أن الحصة الأكبر من كتلة الدعم كانت ولا تزال تذهب لشريحة الأثرياء والمستفيدين الكبار وفي مختلف القطاعات والمجالات التي يستهدفها الدعم، والمثير للسخرية أكثر أنه عندما أرادت الحكومات المتعاقبة معالجة ذلك و”إيصال الدعم لمستحقيه” عملت على تقليص كتلة الدعم السنوية فكان الخاسر الأكبر الشرائح الفقيرة والمحتاجة. وهو ما يعني أن جوهر المشكلة يكمن في السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي غضت الطرف لسنوات طويلة عن ممارسة الاحتكار، الاستغلال، التهرب الضريبي، التهريب، الأنشطة غير القانونية، الفساد… وغير ذلك، ثم حلت الحرب لتضيف لها قائمة أخرى من الأنشطة الاقتصادية غير الشرعية، وتفرز طبقة جديدة من الأثرياء والمتاجرين بثروات البلاد باتت مع مرور الوقت وتوسيع أنشطتها تستحوذ على نصيب غير مسبوق من الدخل القومي.
ومع ذلك، ورغم ظروف الحرب وتحدياتها الاقتصادية، فإن هناك هامشاً لايزال متاحاً للتخفيف من حدة ذلك التفاوت الحاصل في توزيع الدخل، وتالياً تحسين المستوى المعيشي لملايين الأسر السورية التي عانت ما عانت بسبب الحرب. أولى تلك الإجراءات الاستمرار بمشروع الدعم الحكومي لكن شريطة تطوير آلياته وطرق استهداف المستحقين لخدماته، وفي الوقت نفسه العمل جدياً على تطوير بيئة العمل من خلال وقف كل أشكال الاحتكار والاستغلال والفساد، وضع نظام عادل للضريبة، تسوية أوضاع الأنشطة الاقتصادية غير المنظمة، وإجراء زيادات تدريجية على الرواتب والأجور الشهرية بحيث تصل إلى نسبة عادلة ومنطقية من إجمالي كلف الإنتاج والعمل.. وغير ذلك…. لكن السؤال: هل هناك إرادة لتحقيق ذلك على المدى المنظور؟