زياد غصن || أثر برس عدم موثوقية الرقم الإحصائي الرسمي ليس بالحدث الطارئ على المشهد الاقتصادي الوطني، فمعظم الأرقام والبيانات الإحصائية الصادرة عن الوزارات والمؤسسات الحكومية والخاصة يشوبها منذ سنوات عدة كثير من الغموض وعدم الدقة والتناقض، وتحديداً في ملفات أساسية كالدعم، سوق العمل، الفقر وغيرها، ومع ذلك، لم تبادر أي حكومة إلى محاولة تصويب عملية إنتاج الرقم الإحصائي لتكون مطابقة للمعايير العلمية والدولية من ناحية، وتلبي لاحتياجات البلاد التنموية من ناحية أخرى.
لكن أن يصل التناقض الإحصائي إلى أرقام لها أهميتها وخصوصيتها كالبيانات المالية المتعلقة بالرواتب والأجور للعاملين في مؤسسات الدولة، فهذا مؤشر يحمل أكثر من دلالة وإشارة يجدر عدم إهمالها أو تركها بلا دراسة ومعالجة.
ففي شهر آب من العام الماضي، صدر مرسوم تشريعي بزيادة الرواتب والأجور للعاملين في مؤسسات الدولة والمتقاعدين بنسبة 100%، وبحسب ما صرح به آنذاك وزير المالية فإن كلفة تلك الزيادة سنوياً قدرت بحوالي 4 آلاف مليار ليرة، وهذا رقم ردده أكثر من مسؤول حكومي في معرض توضيحاتهم لمصير الوفر المتحقق من الزيادة الكبيرة التي طرأت في الوقت نفسه على أسعار المشتقات النفطية، وهو وفر بلغت قيمته حوالي 5400 مليار ليرة بحسب ما صرح به معاون وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية، والذي أوضح أن 4 آلاف مليار ليرة من ذلك الوفر سوف تخصص لتمويل زيادة الرواتب.
في مثل هذه النسب الثابتة من الزيادات تبدو العملية الحسابية بسيطة جداً، إذ تكفي العودة إلى الكتلة المالية التي تنفق شهرياً على بند الرواتب والأجور، وتحديد نسبة الزيادة الجديدة.
لذلك فإنه من المفترض، وبعد زيادة شهر آب الماضي وتصريح وزير المالية المشار إليه آنفاً، أن تكون كتلة اعتمادات الرواتب والأجور قد أصبحت سنوياً حوالي 8 آلاف مليار ليرة، وعليه فإن كلفة الزيادة الأخيرة التي حصلت على الرواتب والأجور، والبالغة نسبتها 50%، يفترض أن تصل إلى حوالي 4 آلاف مليار ليرة سنوياً، لكن هذا الاستنتاج البديهي لم يحدث.
إذ بعيد صدور مرسوم زيادة الرواتب والأجور في الخامس من هذا الشهر، قدر وزير المالية في تصريح لصحيفة “الوطن” المحلية أن كلفة الزيادة تبلغ حوالي 2500 مليار ليرة، أي ما نسبته 62.5% من إجمالي الكلفة المفترضة، وهذا يطرح تساؤلات عن سبب التناقض في الرقمين وأي منهما هو الأصح.. كلفة زيادة الـ100% أو كلفة زيادة الـ50%؟
بالعودة إلى الموازنة العامة للدولة سوف نجد أن اعتمادات كتلة الرواتب والأجور تصل إلى حوالي 4850 مليار ليرة، لكن عملياً هذه اعتمادات رواتب العاملين فقط في القطاع الإداري ومتقاعدي مؤسسة التأمين والمعاشات، فيما اعتمادات رواتب القطاع الاقتصادي والبلديات والعاملين العسكريين موزعة على أبواب أخرى، وهذا يجعلنا نستنتج أن كتلة اعتمادات رواتب وأجور العاملين في جميع الوزارات والمؤسسات والبلديات ومنشآت القطاع العام تتجاوز فعلاً 8 آلاف مليار ليرة، وتالياً فإن الخطأ يكمن في تقديرات وزارة المالية للكلفة المترتبة على زيادة شهر شباط الحالي والبالغة 50%.
هذا الخطأ يجعلنا أمام احتمالين:
-الأول أنه مجرد خطأ في مضمون التصريحات الإعلامية التي أعقبت صدور مرسوم الزيادة الأخيرة، وأياً كان المسؤول عن ذلك، فهو خطأ يبقى “مقدرو عليه” كما نقول في العامية، ويمكن تصحيحه… وجل من لا يخطئ.
-الاحتمال الثاني أن تكون حسابات الزيادة الأخيرة تم احتسابها على أساس أن كلفتها 2500 مليار ليرة وليس 4000 مليار ليرة، وعليه فإن الحكومة ستكون مضطرة إلى تأمين حوالي 1500 مليار ليرة لم يكن محسوب حسابها عند إعداد دراسة زيادة الرواتب الأخيرة، وكما عودتنا الحكومة الحالية فإن الطريق الأسهل لذلك سيكون مزيد من إجراءات الجباية ورفع أسعار السلع والخدمات، أي أننا سنكون على موعد مع موجة أخرى من التضخم الجامح بفضل حسابات الحكومة الخاطئة.
وما يرجح كفة هذا الاحتمال هو ما قالته وزيرة التنمية الإدارية مؤخراً في معرض شرحها لظروف التريث بتنفيذ قانون التحفيز الوظيفي، حيث أشارت إلى أن كلفة الزيادة الأخيرة تزيد على 3 آلاف مليار ليرة.
لكننا مع ذلك سوف ننتظر توضيح حكومي لهذا التناقض الحاصل في كلفة الزيادة الأخيرة التي جرت على الرواتب والأجور، وماهية الإجراءات التي سوف تتخذ على خلفية ذلك.