زياد غصن-خاص|| أثربرس ربما لم يكن يخطر ببال سيدة من مدينة دوما أو حرستا في ريف دمشق، أو من أي محافظة أخرى، أن ما تحيكه من خيوط حرير على نولها اليدوي، يمكن أن يُصنع منه لباس يرتديه ملك أو رئيس أو مسؤول رفيع في إحدى الدول العربية.
فعندما كان السفير المغربي أو التونسي أو غيرهما يقصدان محلات بيع الأقمشة التراثية في أحد تفرعات سوق الحميدية وسط العاصمة دمشق، كان البائع يدرك أن عليه تقديم بضاعة جيدة، لاسيما إذا كان الزائر الدبلوماسي أو السائح يتردد باستمرار لشراء بعض تلك الأقمشة لتقديمها كهدايا للأحبة والأصدقاء عند عودته إلى بلده. لكن بعض سفراء دول المغرب العربي، كانوا يقصدون محلات بعينها لشراء أقمشة خاصة بالأزياء الشعبية لبلدانهم.
*أزياء وطنية
في محله الكائن في سوق “الخياطين”، كان “سامر النقطة” يستقبل قبل سنوات الحرب كثيراً من السفراء والسياح العرب والأجانب، الذين كانوا يأتون إليه، إما لشراء أقمشة خاصة بالزي الشعبي لبلدانهم، أو لشراء أقمشة تراثية تذكارية تجد طريقها إلى مكاتب ومنازل كبار المسؤولين في دولهم.. في حديثه لموقع أثر برس يقول “النقطة”: في دمشق كان ينتج معظم الأقمشة الخاصة بالأزياء الوطنية الشعبية للعديد من الدول العربية، بدءاً من فلسطين مروراً بالعراق، ليبيا، الجزائر، مصر، تونس، فالمغرب. فمثلاً هناك “البرنص” المغربي الذي لا يزال إلى الآن حاضراً في المناسبات الوطنية، فضلاً عن لباس آخر لونه سكري يرتديه المواطنون في “المغرب” أيام الأعياد، وفي شهر رمضان، وكذلك عند زيارة للملك لتهنئته بالأعياد. هذا اللباس أساسه دمشقي”.
على رفوف محله الصغير والذي ورثه عن والده، تتزاحم عشرات القطع القماشية المرتبة فوق بعضها البعض، مشكلة بألوانها الزاهية قوس قزح قماشياً، لكن ما إن يبدأ “سامر النقطة” بالإشارة إلى وظيفة كل قطعة، حتى يخيل للزائر أنه أمام متحف لأقمشة أزياء شعبية عربية. فهذا الصنف من القماش ينتج خصيصاً لأهلنا في المغرب فقط، وهذا الصنف خاص باللباس التونسي التقليدي، وهناك نوع من القماش عبارة عن حرير 100% وطوله 3.5 أمتار، له نقشة لا تتغير، كما أن لونه محدد (أحمر مع خمري وخط أخضر وزيتي) وهو يستخدم كحزام من قبل النسوة في مدينة نابلس الفلسطينية.
يشير “سامر” بكثير من الإعجاب إلى أن عائلته، ومنذ سنوات طويلة، كانت الوحيدة التي تنتج وتسوّق بعض هذه الأقمشة كاللباس المغربي التقليدي والمحزم الفلسطيني، ويضيف قائلاً: “كان السفير المغربي في دمشق يقصد محلي دائماً قبل الحرب، ويشتري ما بين 10 إلى 15 قطعة قماش لتقديمها كهدايا للمسؤولين ولأقاربه، وكان يتباهى بأنه قماش دمشقي. لا بل إن القماش الذي يصنع منه “بُرنص” الملك المغربي أو ما يطلق عليه كسوة العيد، كان ولا يزال حتى وقت قريب مصدره دمشق”.
*من الحرير الطبيعي
معظم الأقمشة التراثية تلك تُصنع من خيوط الحرير الطبيعي، وأحياناً من خيوط القطن الملمع في حال عدم توفر الحرير، حيث تتولى ورشات منتشرة في عدة محافظات أبرزها: ريف دمشق، حماة، حلب، وريف حمص، عملية حياكته على أنوال يدوية موجودة في المنازل غالباً أو في بعض الورش. إلا أن الأكثر حضوراً هم سيدات مدينتي دوما وحرستا، اللواتي يعود لهن الفضل في المحافظة على استمرار إنتاج هذه الأقمشة وغيرها رغم ظروف الحرب القاسية، والتي تسببت بتراجع أعداد الورش العاملة في هذه المهنة، تدمير الكثير من الأنوال وآلات الخياطة وغيرها، وتراجع المبيعات نتيجة غياب السياح العرب والأجانب ومغادرة بعض السفراء البلاد لأسباب سياسية. ومع ذلك، فإن سامر النقطة يبدو متفائلاً لجهة المحافظة على استمرار إنتاج هذه الأقمشة، فهي حسب اعتقاده “مصدر رزق للعديد من الأسر، ولهذا يحرص العاملون على تعليم أقاربهم ومعارفهم لتوسيع العمل وزيادته، وكثيراً ما يأتي إلينا أشخاص يقولون: لدينا نول ونريد أن نعمل”.
الحرب تركت أثارها أيضاً على جهود التعريف بهذا التراث الذي عمره عدة قرون من الزمن، فقبل العام 2011 كانت المعارض الخارجية تشكل منصة ترويج وتعريف هامة، أما اليوم فإن معظم الأقمشة الموجودة هي أقمشة أنتجت منذ سنوات ولم تجد طريقها إلى التسويق، على اعتبار أن منفذ تسويقها الوحيد كان عبر السياح والعاملين في
السفارات وزوار المعارض الخارجية، وهو ما يطرح تساؤلات عن إمكانية قيام الفعاليات الاقتصادية الخاصة من غرف صناعة وتجارة وسياحة بتدخل يعيد لهذه المهنة والتراث ألقهما وحضورهما القوي والمؤثر على الساحتين العربية والدولية..