أثر برس

كيليتشدار أوغلو بات من الماضي… ما هو مستقبل أكبر أحزاب المعارضة التركية؟

by Athr Press Z

خاص|| أثر برس اختتم “حزب الشعب الجمهوري”، أكبر أحزاب المعارضة التركية، عهداً من ثلاثة عشر عاماً هي مدة زعامة كمال كيليتشدارأوغلو، الذي سقط في المؤتمر العام لصالح مرشح ما يسميه أعضاؤه “التيار التغييري”، متأثراً بالأجواء السلبية التي سادت بعد هزيمته في المعركة الانتخابية التي دخلها مرشحاً لرئاسة الجمهورية. وإن ما سنحاول الإجابة عنه أدناه هو السؤال: كم سيتغير حزب المعارضة الرئيس مع وقوعه تحت هيمنة التيار التغييري؟

من التفاصيل الغريبة قليلاً أن كبار قادة المعارضة الداخلية لكيليتشدارأوغلو، كانوا حتى وقت قصير من أقرب الناس منه، لا بل إن أغلبهم لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بفضله، ولعل أبرز مثال هو زعيم التيار التغييري نفسه، رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، والذي كان حتى قبل أربع سنوات سياسياً محلياً مغموراً يترأس بلدية صغيرة في إسطنبول، ولكن كيليتشدارأوغلو أعجب به، ورمى بكل ثقله الحزبي والسياسي لضمان ترشحه عن الحزب إلى رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى، وضمان وقوف باقي الأحزاب المعارضة إلى جانبه، ولكن إمام أوغلو نفسه سرعان ما ركب موجة الانزعاج من الأداء السيئ، في الانتخابات، من جانب الحزب وأمينه العام، فأسس تيار التغيير من رجال الحرس القديم نفسهم، الذين قرروا فجأة أنهم سيثورون على الأسلوب القديم. ومن المفروغ منه أن مما دفعهم إلى هذا القرار هو ميزانية بلدية إسطنبول العملاقة، والتي تعادل وحدها مجموع ميزانيات وزارات عدة. فالتيار التغييري هنا هو في الحقيقة تيار محافظ إلى أبعد الحدود، إذ لا أسس أيديولوجية له، ولا برنامجاً واضحاً، والنقطة الوحيدة المعروفة فيه هي انتقاده الأمين العام ولمن بقي على ولائه له.

قد يكون لكيليتشدارأوغلو عشرات، أو ربما مئات، العيوب. ومن أهمها أنه رجل من دون أيديولوجية، فهو ينظر إلى السياسة نظرة رياضية مجردة. إذا كان لديك “س” صوتاً، ولدى الحزب الفلاني “ع” صوتاً، فإن مجموع أصواتكما إذا تحالفتما هو: “س + ع”، ولكن الواقع العملي يقول إن أصواتك ستتأثر بحسب تحالفاتك، فالقوميون المتشددون لن تعجبهم سياستك في محاولة احتواء الأكراد، واليساريون لن يعجبهم محاولاتك التفاهم مع كبرى الرساميل الأمريكية والإنكليزية، والإسلاميون لن تعجبهم علمانيتك.. وهكذا. وأمضى كيليتشدارأوغلو عمره السياسي يحاول التقارب مع اليمين، بفرعيه العلماني والإسلامي. وقدّم تنازلات كبيرة له. ولعل أهمها تقديمه أكثر من ثلاثين مقعداً برلمانياً لأحزاب يمينية مغمورة، لم تكن لتحقق لولاه عشر هذا الرقم، ولم يقدم ولو مقعداً واحداً لأحزاب تقدمية صغيرة، مثل “الحزب الشيوعي” و”حزب الحرية والتضامن” وبالمحصلة، خذلته تلك القوى اليمينية كعادتها كما خذله بالضبط رفاقه الذين رفعهم في مفاصل العمل الحزبي، وأما تيار التغيير فهو لا يحمل من التغيير إلا العناوين العريضة، ومن دون محتوى حقيقي.

الحزب سيستمر في سياسة “اللامبدأ” التي رسخها كيليتشدارأوغلو، ويظهر حسبما يجري من أحاديث أن أولى بنود جدول أعمال قادته هو التواصل مع الأحزاب اليمينية لمحاولة بعث التحالف الانتخابي معها من جديد، كما تفيد المعلومات المتداولة بأن بعضاً من كبرى العائلات الثرية قررت دعم إمام أوغلو ليقود حملة إسقاط كيليتشدار أوغلو، على هذا يسهم في تهيئة البلاد لمرحلة ما بعد الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي بات مسناً ومريضاً، ولم يحسم ملف خلافته حتى الآن، ولا يبدو أنه سيحسمه بسهولة لأسباب نفسية تتعلق بأنه لا يفكر في أنه ميت، بل لعله يتوقع أن يخلد، وهذه النقطة بالذات، أي تدفق دعم مالي وسيولة نقدية كبيرة في خزانة التيار التغييري، هي أيضاً من أهم وسائل الإقناع التي استغلها الرجل كي يضمن انقلاب رجال كيليتشدارأوغلو عليه، ولهذا رأينا فجأة أنه من أصل خمس أو ست محطات قريبة من الحزب لم تبق إلا واحدة منها في صفه، وانحازت بقيتها إلى جانب المعارضة الداخلية “تيار التغيير”، وإحدى المحطات هذه بقيت حتى اليوم قبل الأخير حيادية في المعركة، ولكنها في اليوم الأخير قررت فجأة أنه يجب تغيير الأمين العام وأن الأوضاع لم تعد تطاق بوجوده.

وبات رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، زعيم الحزب اليوم، وأما الأمين العام الجديد أوزغور أوزيل فهو “أمين عام بالوكالة” -إن جاز التعبير- ولا يخفي إمام أوغلو، خططه بالعمل على الفوز برئاسة البلدية لولاية جديدة في نيسان العام القادم، والتمهيد لدخوله مرشحاً لرئاسة الجمهورية بعد خمس سنوات، إنه لا يحمل برنامجاً انتخابياً، ولا يعتنق عقائد معينة، اجتماعية أو سياسية، بل يستثمر في شيء واحد فقط هو الكاريزما الشخصية له، والمال الذي يتدفق بغزارة سواء من ميزانية البلدية أم من خزائن رعاته من كبار بعض أثرياء البلاد. وليس سراً أنه يجري اتصالات في واشنطن ولندن وبرلين لتهيئة الرأي العام العالمي لفكرة وصوله إلى الرئاسة، وأنه يشكل بديلاً أفضل من أردوغان.

ومع هذه اللوحة غير المبشرة، نظن أن كثيراً من الشخصيات والقوى الأقرب إلى التقدمية ستتخلى عن رهانها الخائب في الذوبان داخل “حزب الشعب الجمهوري” ومحاولة التأثير في الأحداث من داخله، إذ بات واضحاً، أنه وإن كان هناك على الدوام تيار قريب من النقابات والقطاعات الشعبية الفقيرة داخل الحزب فإنه في الإطار العام بقي، كما هو منذ عشرات السنوات، حارساً للمصالح الأمريكية والغربية، وقلعة من قلاع الحفاظ على مصالح الأقلية الثرية، إن تركيا عموماً تتجه، ولو بخطوات هادئة، نحو الخيارات المتشددة وغير المتلاقية.

إن ميادين الحلول الوسطى تضيق باستمرار، وهذا يبشر بعهود أكثر اضطراباً، لأن كل طرف يبحث عن حلول غير تقليدية لوضع تصوراته موضع التنفيذ.

ومن التغيرات التي نتوقعها أن تكون مواقف الحزب أقوى من ذي قبل. هذا لا يعني أن الأمين العام الجديد، أو بالأحرى زعيمه غير الرسمي، أكثر صلابة من كيليتشدارأوغلو. ولكن الأخير كان يتسم بميزة التذبذب وعدم الاستقرار على قرار، والسماع لهمس كل من يهمس في أذنه، ومحاولة التوفيق المستحيل بين الآراء المتناقضة بالغمغمة والتسويف، وقد يقرر اليوم شيئاً، ثم يعود عنه غداً، أما إمام أوغلو، فذو شخصية أكثر استقراراً في قرارها، وأكثر حزماً، ويدرس خياراته بمنهجية أكبر قبل أن يستقر على واحد منها، ولهذا هو أكثر قدرة على إرباك أردوغان وسلطته.

ويدعي “حزب الشعب الجمهوري” أنه حزب الاستقلال والسيادة الوطنية منذ العشرينيات، فإن عدم صدور أي دعوة من أي من قيادييه، سيما مما يدعى “تيار التغيير”، لإغلاق القواعد الأمريكية والخروج من حلف الارتهان والتبعية لأمريكا، يعني أن لا وجود لتغيير حقيقي في المدى المنظور.

سومر سلطان

اقرأ أيضاً