خاص|| أثر برس قد يكون الأمريكيون هم أكثر من يتحدث عن الانسحاب من الجزيرة السورية وخط الفرات. وفي كل مرة يبحث الكونغرس أو البنتاغون في الموضوع، أو تكتب مجلة أمريكية عن ذلك، كما فعل تشارلز ليستر في “فورن بوليسي”، يحدث نوع من الإفراط في التحليل، وتثار أسئلة كثيرة حول مستقبل منطقة الجزيرة، وخرائط القوة والسيطرة، وموقف دمشق وأنقرة وطهران وموسكو وغيرها، ومصير “الإدارة الذاتية” و”قسد”؟
صحيح أن الأمريكان يتحدثون عن انسحاب، لكن المؤشرات في الميدان تشير إلى خلاف ذلك، إذ إن واشنطن تزيد أعداد قواتها، وتزيد تسليح “قسد”، كما لو أن إشاعة الأخبار عن انسحاب محتمل هو نوع من التغطية على مزيد من الانخراط والتورط غير الشرعي والإجرامي في الأزمة السورية.
والواقع أن هاجس الوجود الأمريكي موجود لدى دمشق، وبالطبع لدى طهران وموسكو، وإلى حد ما أنقرة، والأخيرة لديها تحالف عميق مع واشنطن، ولا تصل التوترات بين الطرفين إلى حد القطيعة، بل إنهما في نهاية المطاف في اصطفاف واحد وأفق واحد وهو: العداء لسوريا. وخلافهما حول “الإدارة الكردية” و”قسد” منضبط في إطار التحالف بينهما. وما يجمعهما أكبر مما يفرقهما.
قلب الظلام
وإذ تهجس دمشق بالوجود الأمريكي غير الشرعي في منطقة الجزيرة والتنف، فإنها تواجه صعوبات وتحديات كبيرة في تدبير الموقف بانفراد، وذلك أنه ثمة فوراق في القوة والإمكانات، فضلاً عن أن سنوات الحرب فعلت فعلها في البلاد وأجهدت بناها وإمكاناتها المادية والمعنوية. لكن من الصعب تقبل وجود أمريكا في سوريا، بل إن أمريكا هي “قلب الظلام” و”مصدر الشرور” لسوريا والإقليم (والعالم)، ولا بد من مقاومتها. وأن إخراج أمريكا من سوريا هو شرط لعودة الأخيرة مجتمعاً ودولة موحدين وفي معناهما وأفقهما ودوهما التاريخي والاستراتيجي.
قابلية محلية
يعتمد الوجود الأمريكي في منطقة الجزيرة “قابلية محلية”، تمكنت أمريكا من تعزيزها وتهيئة الظروف المناسبة للدفع بها نحو خلق كيانية خاصة، إلى جانب الأوضاع الكيانية في شمال غربي البلاد ومناطق سيطرة القوات التركية والميليشيات الموالية لها. والأوضاع المتوترة في المنطقة الجنوبية. خرائط سيطرة ونزعات كيانية مختلفة، لا يمكن أن تقوم أو تستمر من دون دعم أمريكي مباشر أو غير مباشر.
ميزان العائدات والتبعات
ويشعر الأمريكان _حتى الآن_ أن عائدات وجودهم شرقي سوريا أكبر من التبعات، إذ لا تتعرض القوات والمصالح الأمريكية لتحديات أو مخاطر كبيرة. صحيح أن الهجمات من قبل المقاومة تزداد، لكن ميزان التقدير الأمريكي ما زال يرجح البقاء على الانسحاب.
لكن، إذا كانت الأمور كذلك، أي من دون تهديدات كبرى، لماذا، إذاً، يهجس الأمريكان بالانسحاب، وقد يكونون أكثر من يثير الموضوع، حتى من أبناء البلد أنفسهم؟ ولماذا يخاف حلفاؤهم من قرار محتمل وقد يكون وشيكاً بهذا الخصوص؟ ولا نعني بالحلفاء هنا “قسد” والفواعل العربية والكردية الموالية لأمريكا فحسب، وإنما تركيا ودول أوربية وعدد من الدول العربية و”إسرائيل” أيضاً. وإذاً، فإن قائمة الراغبين ببقاء أمريكا في سوريا طويلة نسبياً، ووازنة في الإقليم والعالم! تذكر ردود الفعل الكثيرة على قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالانسحاب. وتذكر خيبة أمل كثيرين من هؤلاء حيال الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.
درس أفغانستان
تحدث الأمريكان كثيراً عن مبررات وجودهم في أفغانستان، وعن الدولة التي بنوها هناك، وأعطوا العالم دروس في كيفية بناء الدول في حالات الاحتلال والنزاع والحرب، قبل أن يضطروا للانسحاب في لحظة حرجة وملغزة، وترك كل شيء لخصومهم السابقين: حركة طالبان. وما زال الأمريكان يفعلون الشيء نفسه فيما يتعلق بوجودهم في العراق.
والواقع أن الأمريكان يستدعون مثال أفغانستان خلال حديثهم عن مستقبل وجودهم في شرقي سوريا، وعن علاقتهم بحلفائهم في هناك. وهذا من الأمور التي تتطلب مزيداً من التقصي والتدقيق، وخاصة من قبل حلفاء أمريكا من العرب والكرد وغيرهم. إذ إن درس أفغانستان مثال للعيان، ومن المهم تلقيه بحكمة واتزان.
ببطء، ولكن بثبات!
لكن هل كان الأمريكان أحراراً في أن ينسحبوا أم لا؟ عاند الأمريكان الوقائع ورفضوا التقديرات والتحذيرات، ويبدو أن العناد على السطح لم يتناسب مع بروز مدراك تهديد متزايدة في الواقع، وتزايد المؤشرات على تغير موازين المعنى والقوة في أماكن وجودهم. وما حدث هو أن التهديدات العسكرية أو الأمنية لم تكن وشيكة أو ماثلة أو متفجرة على الدوام، لكن الميزان كان يتغير ببطء وثبات، ولاحقاً بتسارع، وصولاً إلى اللحظة التي وجد الأمريكان أنفسهم فيها إزاء مخاطر جدية، بل إزاء هزيمة وشيكة.
قوة التدبير
ربما لم تملك طالبان قوة تدمير كبيرة يمكن استخدامها ضد أمريكا، لكنها امتلكت قوة تدبير وتكتيك بعيد المدى جعلت مجرد التفكير بالبقاء أمراً بالغ التكلفة. وقدمت طالبان في الآن نفسه مؤشرات متزايدة للحل أو التسوية بينها وبين أمريكا، ودخل الطرفان في مفاوضات طويلة. لكن لم يكن من المتصور أن تنتهي الأمور بالشكل الذي انتهت إليه: انسحاب مذل للقوات الأمريكية، ومدمر لحلفاء أمريكا في أفغانستان.
لكن هل كانت طالبان تعمل منفردة؟ الجواب هو لا. كان ثمة تشابكات متزايدة لطالبان مع روسيا والصين، عززت في مدارك القوة لديها، ومدارك التهديد لدى أمريكا. وبالطبع ثمة عوامل أخرى كان لها دور فيما آلت إليه الأمور.
احتواء مركب ومديد
قد لا يملك دمشق وحلفاؤها إمكانية إخراج أمريكا بالقوة والمواجهة المفتوحة والمباشرة، لكن من الممكن العمل لإحداث تغييرات في الميدان، وفي المشهد السوري ككل، تجعل من ترجيح الأمريكان بقاء قواتهم في سوريا أكثر صعوبة، ثم أكثر تكلفة. وقد لا تنصب كل الجهود على القوات الأمريكية مباشرة، ومن المهم في هذا السياق العمل ما أمكن على احتواء السياسات والرهانات في الجزيرة، سواء أكان المحلية أم أمريكية وتركية، ودفع الأمور إلى تحولات وتغيرات تدريجية، وقد تكون بطيئة، تتمثل في:
- تعزيز بيئة وجود غير آمنة، وتهديدات مستمرة. وتحول تدريجي أو متزايد في نمط التهديدات والخسائر الأمريكية.
- إقامة بنى وشبكات اتصال عابرة لمناطق وجغرافيات السيطرة، تتحرك في أفق المجتمع والدولة.
- تغيير في القابلية الاجتماعية والسياسية لوجود أمريكا، وإشعار المتعاونين مع أمريكا بأن لا مستقبل لوجودها في البلاد. والواقع أنه ثمة من يريد أمريكا ويعد وجودها فرصة في مواجهة مصادر تهديد تتمثل بـ”الدولة المركزية” أو تركيا أو إيران أو روسيا.
قد لا تكون المهمة يسيرة، لكن ذلك _مع عوامل أخرى_ كفيلة بدفع واشنطن لإعادة قراءة الموقف، ومراجعة السياسات والرهانات، وبالتالي ترجيح عوامل الانسحاب. وعادة ما تكون التبعات هي المعيار أو الرائز الرئيس في تقديرات وقرارات الانسحاب الأمريكي من أي منطقة من العالم.
إن الإيقاع المتزايد للهجمات على القواعد الأمريكية في شرقي سوريا وخط الفرات والتنف، يحيل إلى تغير في مدارك التهديد-الفرصة لدى الفواعل المعادية لأمريكا، ولو أن الهجمات بدت _من منظور البعض_ نتيجة توتر إيراني-أمريكي، مرتبط بحرب غزة، ربما أكثر منه نتيجة تغير في اعتبارات وتقديرات الموقف حيال الوجود الأمريكي في منطقة الجزيرة وخط الفرات في سوريا.
لا شك أن درس الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ماثل للجميع، ومن المفترض ألا يتقادم به الحال ليكون درساً منفصلاً وبعيداً في المكان والزمان، إذ ثمة حاجة لإعادة إنتاجه في سوريا، وتهيئة الظروف لانسحاب أمريكي مشابه من شرقي سوريا.
الدكتور عقيل سعيد محفوض