في الوقت الذي تنشغل فيه واشنطن بإجراءات نقل السلطة في الولايات المتحدة وترتيب بيتها الداخلي، وما يرافق ذلك من تغيير جذري للشخصيات التي من المفترض أن تقود الملف السوري، تعبر موسكو إلى ضفة نهر الفرات الشرقية.
العبور الروسي الذي لم يأتِ بصورة خفية أو سرية، تم برياً وفي وضح النهار، فعلى مدى أسبوعين لم يتوقف تدفق قوافل العزيزات الروسية، حيث ترسم عجلات الآليات الروسية على طرفي الطريق الدولي (M4) ملامح معادلة ميدانية جديدة، تحقق عبرها موسكو جملة من الأهداف المجتمعة لفرض واقع جديد.
التعزيزات الروسية غير المسبوقة لا تسعى عبرها موسكو للبحث فقط عن نفوذ ما في منطقةٍ تشكل المجال الحيوي الأرحب للأمريكيين في سوريا، وإنما تتعدى الأهداف الروسية ذلك لترتبط بجهود كبح احتدام التوتر الحاصل -والمرشح للتصعيد- بين ميلشيات قسد والجيش السوري في الحسكة وحلب، كما أنها تأتي كذلك على إثر مواجهات عنيفة بين قسد وأنقرة حول عين عيسى.
مطار القامشلي، حيث تتمركز القوات الروسية منذ عام 2016، هو المحطة الأولى للتعزيزات التي يعلن عنها بشكل شبه يومي، والذي يشكل قاعدة موسكو الرئيسية التي تدير منه وجودها في محافظات سوريا الشرقية، وعبر مطار الحسكة تنتشر تلك التعزيزات في مواقع متفرقة، بدءاً من تل تمر بريف الحسكة، ووصولاً إلى عين عيسى بريف الرقة.
آخر تلك العزيزات وصلت صباح أمس الجمعة، حيث أقلّت طائرة شحن عسكرية روسية جنوداً روس خضعوا لتدريبات خاصة إلى قاعدة القامشلي، بالإضافة إلى عتاد ومعدات لوجستية، وأفراد من الشرطة العسكرية الروسية انتقلوا بعرباتهم فوراً إلى قاعدتي تل تمر وعين عيسى، وذلك حسب موقع “Rusvesna” الروسي.
وتقول مصادر مراقبة لـ “أثر” إن التعزيزات الحالية سبقها أربعة حشود متفرقة، حطّت في مطار القامشلي ومحيط الطريق الدولي “m4” في فترات متقاربة، منذ بداية العام الحالي، أكبرها كان الأسبوع الماضي، حيث وصل أكثر من 300 عنصر من “الشرطة الروسية”، وانتشروا فيما بعد في محيط تل تمر وعين عيسى، وهو الأمر الذي ذكرته وكالات روسية، بينها “تاس”.
وحسب مصادر “أثر” واسعة الاطلاع فإن التعزيزات الأخيرة رفعت عدد الجنود الروس في مطار القامشلي ومحيطه إلى 1500 جندي.
وتقول الرواية الروسية إن تعزيز وجودها العسكري في مناطق شمال وشرق سوريا يصب في سياق ضمان استقرار المنطقة، سيما بعد التصعيد الأخير بين تركيا والقوات الكردية في محيط عين عيسى، والذي كاد أن يصل حد المواجهة العسكرية.
ويقول قائد وحدة الشرطة العسكرية، جورجي روداكوف، في تصريحات إعلامية، إن الكتائب التي تصل إلى شرق سوريا ستعزز نقاط المراقبة المشتركة مع الجيش السوري، والمشاركة في دوريات روسية-تركية مشتركة، إلى جانب ضمان مرافقة أرتال السيارات المدنية.
وتترافق التعزيزات على المستوى العسكري مع محاولات اختراق روسية للمكونات العشائرية العربية من جهة، ولقوات قسد ذراع واشنطن الضارب في مناطق شرق سوريا من جهة أخرى، حيث شرع الروس منذ مطلع العام الجاري بعقد اجتماعات بصورة متواصلة مع زعماء العشائر في دير الزور والحسكة، كما قادوا عدة وساطات بين قسد ودمشق، وبين قسد وأنقرة لأسابيع عدة.
وبعيداً عن التصريحات، يبدو أن موسكو تحاول فرض مشهد عسكري وميداني جديد في مناطق الشرق السوري، عبر مزاحمة واشنطن في المنطقة لمنعها من التفرد بالنفوذ الخالص، وجعل وجودها -بكافة أشكاله- أمراً واقعاً، لا تبقى فيه واشنطن حجر الأساس الوحيد في المعادلة الميدانية شرق سوريا، وهو ما سيمكن دمشق من الحفاظ على مواقعها هناك والانتقال إلى محاولة التمدد وبسط سيطرتها على أجزاء من أراضيها، وفي المقابل يكبح جماح أنقرة ويؤطر وجودها العسكري في المنطقة.
رضا توتنجي