خاص|| أثر برس تشهد العلاقات بين واشنطن وأنقرة تجاذبات وسجالات حادة نسبياً حول الدعم الأمريكي لـ”الإدارة الذاتية” في منطقة الجزيرة السورية، الدعم الذي تعده تركيا تهديداً لأمنها الوطني ومصالحها في الإقليم.
ويراوح الموقف بين الطرفين مثل بندول بين تنافر وتقارب: تقارب لا يصل إلى حد التوافق التام، وتنافر لا يصل إلى حد القطيعة. وهذا ينسحب إلى عدد من القضايا في الإقليم.
الصحيح أن واشنطن وأنقرة تديران علاقاتهما، في أفق تحالف وليس صراع، بل إن التوتر على مستوى الخطاب السياسي والإعلامي، وأحياناً التكتيكات السياسية، غالباً ما يشوش الرؤية ويُعمي عن حقيقة العلاقات بينهما التي تنطوي على توافقات عميقة في الموضوع الكردي والسوري والإقليمي، وحتى العالمي. وإذ تنتقد أنقرة واشنطن بسبب دعمها لـ”الإدارة الذاتية” في سوريا، كما تتكرر الإشارة، لكنها تنسق معها في كل ما يتعلق بجوانب الأزمة السورية والسياسات في الإقليم وصولاً إلى الموقف من الأزمة الأوكرانية.
يمثل الوجود الأمريكي في منطقة الجزيرة السورية وخط الفرات، ودعم واشنطن لـ”الإدارة الذاتية” و”قسد” مسألة دائمة تقريباً بين أنقرة وواشنطن. وقال مسؤولون أتراك خلال اجتماعات “الآلية الاستراتيجية الأمريكية-التركية” في واشنطن (أوائل آذار/مارس 2024) إن موضوع “قسد” و”الإدارة الذاتية” يمثل “محور خلاف” بين البلدين. ولو أن أنقرة لا تطلب انسحاباً أمريكياً من شرقي سوريا، بل تريد أن يكون الوجود الأمريكي متوافقاً مع أولويات أنقرة في سوريا ككل وليس حيال الكرد و”الإدارة الذاتية” فحسب.
لا بأس من تذكر كيف أن أنقرة كانت تشتكي من تردد واشنطن في التدخل العسكري المباشر في الحرب السورية. لم توافق واشنطن على مطالب أنقرة في السنوات الأولى من الحرب السورية بفرض “حظر جوي” وإقامة “مناطق آمنة” أو التدخل العسكري المباشر ضد دمشق. علماً أن واشنطن فعلت كل شيء ممكن في الحرب، وفق تقديراتها ومصالحها. وما فعلته واشنطن وأنقرة حيال سوريا معروف للجميع تقريباً.
المفارقة أن التدخل العسكري الأمريكي المباشر في سوريا، جاء -في جانب منه- مخالفاً لتقديرات أنقرة، وخصوصاً أنه جاء من بوابة التحالف مع “وحدات حماية الشعب” التابعة لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” الذي تعده تركيا “فرعاً سورياً” لـ”حزب العمال الكردستاني” التركي. ولو أن أنقرة أفادت من ذلك، وتمكنت من توسيع نطاق تدخلها وسيطرتها المباشرة وغير المباشرة في مناطق واسعة من شمالي وشمال غربي سوريا، بما في ذلك مناطق مثل عفرين ورأس العين كانت ضمن مناطق السيطرة الكردية. ولم يكن ذلك ممكناً بمعزل عن تفاهمات بينها وبين واشنطن (وأطراف أخرى).
تميل أنقرة إلى المبالغات الخطابية، الإعلامية والسياسية حول عوامل التنافر أو الخلاف مع واشنطن، وخصوصاً الموضوع الكردي. وتميل إلى “السكوت” عن عوامل التوافق، في موضوعات كثيرة، ومنها الموضوع الكردي نفسه! بينما تميل واشنطن إلى “التخفيف” من عوامل التنافر، وتطلب من أنقرة تفهم أولويات واشنطن حيال “الإدارة الكردية” سوريا ككل.
الواقع أن ثمة شيئاً من تحايل ومداورة في ما يحدث، إذ تعد أنقرة القوات الكردية عدواً لها، لكنها فعلت الكثير من أجل إقامة تفاهمات وتوافقات معها، وهي ليست ضدها بالتمام، ولا مانع لديها من “كيانية كردية” أو “إدارة ذاتية” يقودها الكرد في منطقة الجزيرة السورية، شرط أن تكون على غرار “الإدارة الكردية” في شمال العراق.
وتدفع أنقرة اليوم –بالتنسيق مع واشنطن– من أجل خلق الظروف المناسبة لإقامة توافقات بين مناطق سيطرة “قسد في الجزيرة ومناطق سيطرة تركيا والميليشيات الموالية لها و”جبهة النصرة” في شمال غربي سوريا. ويكرر عدد من مسؤولي “قسد” و”الإدارة الذاتية” الحديث عن استعدادهم للتعاون مع مناطق سيطرة تركيا في شمالي وشمال غربي سوريا، ومع تركيا نفسها، كما عبر مراراً مظلوم عبدي قائد “قسد”.
وإذ يشتكي أردوغان من أن واشنطن لا تستجيب لمطالب أنقرة بوقف دعم “قسد”، فإن ثمة بالمقابل تنسيقاً واضحاً بين الطرفين حيال “الإدارة الذاتية”، بما في ذلك الهجمات أو الاعتداءات على مواقع “قسد” والبنى التحتية في منطقة الجزيرة. وتشن أنقرة اعتداءات مستمرة وتدمر تدميراً وحشياً محطات تحويل الكهرباء والمياه والجسور والمراكز الصحية والإدارية والأراضي الزراعية وغيرها.
وتشجع أنقرة الناس في مناطق “الإدارة الذاتية”، وخصوصاً الشبان، على الهجرة إلى تركيا ومنها إلى أوروبا. وهذه تكتيكات تهدف إلى جعل منطقة الجزيرة غير مناسبة للعيش، واستنزاف الموارد المادية والبشرية التي تحتاج إليها “الإدارة الذاتية” من أجل الاستمرار. هذه تكتيكات تعرفها “قسد” لكنها تجد صعوبة متزايدة في التصدي لها. كما ان أمريكا لا تدعم “قسد” بهذا الخصوص.
ثمة مخاوف متزايدة وربما “امتعاض” قبل كوادر وقيادات كردية بسبب الموقف الأمريكي من الاعتداءات والتكتيكات التركية، لكنهم لا يستطيعون مجرد الاحتجاج الصريح والعلني أمام واشنطن على ما يحدث.
ثمة تفاوت في الوزن النسبي وترتيب الأولويات بين أنقرة وواشنطن، ولكن الموقف حيال الكرد و”الإدارة الذاتية” يتحرك في أفق تحالف عميق ومديد بينهما. وأما الموقف بين واشنطن و”قسد” فهو أقرب لـ”تحالف طارئ” و”مؤقت”. وهذا المحددات الرئيسة لمستقبل “الإدارة الذاتية”.
كلما زاد ما تقدمه “قسد” لأمريكا، قل ما يمكن أن تقدمه لنفسها. وتأخر التحرك في طريق القامشلي- دمشق، وزادت الاعتداءات من قبل تركيا، والتي لا يمكن أن تحدث بمعزل عن التفاهمات العميقة بين أنقرة وواشنطن.
الدكتور عقيل سعيد محفوض