خاص || أثر برس
مع تمكن القوات التركية والفصائل المسلحة الموالية لها في أواخر شهر آذار من العام الجاري، من دخول منطقة عفرين في ريف حلب الشمالي واحتلالها، لم تغب النية الواضحة لدى الأتراك بـ “تتريك” المنطقة، عبر سياسات متتالية اتبعتها السلطات التركية بشكل تدريجي بدءاً من عفرين المدينة ووصولاً إلى القرى والبلدات التابعة لها.
فمع بداية احتلالها لعفرين، بدأت أولى ملامح “التتريك” بعد رفع القوات التركية علمها سواء فوق مبنى “السرايا” الأثري وسط المدينة، أو فوق جميع المدارس والمباني الحكومية الموجودة في المدينة، قبل أن تعمد الشرطة التركية والمسلحين الموالين لها إلى تحطيم جميع التماثيل والرموز التاريخية الكردية التي تتوسط الساحات الرئيسية في المدينة.
وبعد فترة قصيرة من زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وعدد من الضباط الأتراك والشخصيات التركية إلى المنطقة الحدودية مع سوريا، انتقل الأتراك إلى مرحلة جديدة من مراحل “التتريك”، تمثلت في نقل ملكيات عدد من الأراضي والمنازل التي هُجّر أصحابها منها خلال معارك المنطقة، إلى عدد من قادة المسلحين الموثوقين لدى أنقرة، كما ترافقت هذه المرحلة مع إقدام المجموعات المسلحة على تنفيذ عمليات حرق لعشرات الهكتارات من الأراضي الزراعية التي رفض أصحابها تقاسم محاصيلهم الزراعية مع قادة الفصائل المسلحة.
في الغضون وبعد توصل القوات السورية إلى اتفاق تسوية يقضي بخروج الفصائل المسلحة من غوطة دمشق وأرياف العاصمة السورية وحمص وحماه بشكل عام، تدفق الآلاف من المسلحين وعائلاتهم إلى المناطق الخاضعة للنفوذ التركي في ريف حلب الشمالي، وتم إدخالهم إلى هذه المناطق بعد سلسلة تجاذبات وانقسامات بين صفوف الفصائل، لتتوجه غالبيتهم العظمى بعد ذلك بتوجيهات تركية إلى منطقة عفرين حيث تم تجهيز عدد من المخيمات لاستقبالهم وخاصة في بلدة “جنديرس” ومحيطها جنوب غرب المنطقة.
وخلال فترة قصيرة بدأت عملية “توطين” عدد من مسلحي هذه الفصائل وقادتهم في أنحاء مختلفة من منطقة عفرين، والحصة الأكبر من التوطين شهدتها عفرين المدينة التي أصبح مسلحو غوطة دمشق وعائلاتهم يشكلون النسبة الكبرى من قاطنيها، لتبادر السلطات التركية بعد ذلك إلى تسليم القادمين بطاقات إقامة تركية مؤقتة أو ما تعرف بهوية “الكيملك”، وهي البطاقة التي تسلمها تركيا عادة للاجئين أو المقيمين لفترة مؤقتة أو محدودة ضمن أراضيها.
خطوة تسليم “الكيملك” لم تقتصر على مسلحي ريف دمشق وعائلاتهم، بل امتدت بعد وقت قصير لتشمل السكان الأصليين لمنطقة عفرين والذين تم إرغامهم على مراجعة مبنى “السرايا” وسط المدينة لتسلم هذه الهويات تحت طائلة العقوبة لكل من يتخلف عن استلامها، الأمر الذي جعل من أهالي عفرين الذين يشكل السوريون الأكراد غالبيتهم العظمى، بمثابة اللاجئين في ديارهم على مختلف الصعد المعيشية والحياتية والعملية.
ولم تعد نية “تتريك” عفرين بمسألة قابلة للجدل خلال الفترة الماضية، وخاصة بعد أن انتقلت السلطات التركية إلى مرحلة جديدة من هذه العملية، تمثّلت في تغيير أسماء الساحات الرئيسية وعدد من شوارع مدينة عفرين والقرى المجاورة لها إلى أسماء تعود غالبيتها لشخصيات ورموز تركية وأسماء عربية بعضها ذو صلة بالعمليات العسكرية التركية، فتحولت ساحة “السرايا” وسط المدينة إلى ساحة “رجب طيب أردوغان”، وساحة “الحرية” أو كما تعرف بساحة “النيروز” تغير اسمها ليصبح ساحة “صلاح الدين الأيوبي”، وباتت مستديرة “كاوا الحدّاد” أحد أبرز الشخصيات التاريخية الكردية تسمى بـ “دوار غصن الزيتون” نسبة للعملية التي تمكن الأتراك خلالها من احتلال عفرين.
كما طالت الحملة تسمية أحد شوارع المدينة الرئيسية باسم “شهداء /18/ آذار” في إشارة لليوم الذي اقتحمت فيه القوات التركية مدينة عفرين، وكأمثلة على تتريك أسماء القرى في عفرين، تم تغيير اسم قرية “قسطل مقداد” إلى قرية “سلجوق أوباسي”، وقرية “كوتانا” إلى “ظافر أوباسي”.
وبطبيعة الحال، اعتلى العلم التركي جميع الشاخصات واللوحات الدلالية لأسماء المناطق والساحات الجديدة في عفرين، فيما لم تسلم المدارس الموجودة في المنطقة من عملية “التتريك” فعدا عن رفع العلم التركي فوق سواريها، تم منع التكلم داخلها باللغة الكردية كما جرت عادة أهالي المنطقة، مع اقتصار عملية التعليم فيها على اللغتين العربية والتركية.
واقترنت كل تلك الخطوات التركية، مع عمليات طمس منظمة للهوية الأثرية والتاريخية في المنطقة، فسجل خلال الأشهر الماضية عمليات نقل بالجملة لأبرز المعالم الأثرية من عدة قرى وبلدات تاريخية في ريف عفرين كـ “كيمار” و”برج حيدر” و”النبي هوري”، إلى داخل الأراضي التركية، وفق ما تم تناقله وتوثيقه من قبل بعض الناشطين الكرد على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولعل الخطوة الأبرز للسياسات التركية في عفرين، كانت ما قامت به السلطات التركية قبل أقل من شهر والتي تمثلت بافتتاحها لمعبر حدودي جديد يربط منطقة عفرين مباشرة بأراضي ولاية “هاتاي”، لواء اسكندرون السوري، عبر تجديدها لمعبر “الحمّام” الصغير الذي كان يستخدم قديماً لأغراض التهريب بين ناحية جنديرس جنوب غرب عفرين وإحدى القرى الحدودية التركية، وتم إطلاق اسم “غصن الزيتون” على هذا المعبر تيمناً بالعملية التركية على عفرين، ليبدأ العمل به فعلياً خلال الأسبوعين الماضيين لأغراض تجارية بحتة وفق زعم التصريحات التركية.
مصدر أهلي في عفرين أفاد لـ “أثر برس”، بأن الممارسات التركية بحق أهالي المنطقة والتي تفاقمت بشكل كبير مؤخراً بعد ارتفاع عمليات الخطف والتهجير القسري الذي يعانيه السكان على أيدي قادة ومسلحي الفصائل المدعومة تركياً، جعلت من منطقة عفرين ككل على صفيح ساخن وزادت من حالة الغليان الشعبي التي بدأت بالظهور منذ انطلاق عمليات “التتريك” قبل أشهر.
ويوصّف المصدر الوضع الراهن في عفرين بالقول: “لطالما كانت عفرين (أرض الزيتون)، رمزاً للسلام والمحبة، إلا أنها تحولت الآن إلى جحيم بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وخاصة بعد الاشتباكات والمعارك المستمرة التي نعيشها يومياً في المدينة والريف سواء الداخلية فيما بين الفصائل المسلحة التي غالباً ما تكون خلافاتها لأسباب تتعلق بتقاسم ما سرقوه من منازلنا، أو المعارك الأخرى الناجمة عن العمليات التي تنفذها الوحدات الكردية باتجاه مراكز ومقرات المسلحين، عدا عن عمليات التفجير المجهولة التي أصبحت تتكرر مؤخراً في المدينة وريفها موقعة المزيد من الضحايا المدنيين”.
وفي سياق قريب من عمليات “التتريك”، ولكن من جانب اقتصادي، فسُجل أيضاً استغلال هذه الفصائل للأهالي بطرق عدة تركزت بالشكل الرئيس في إجبار مزارعي المنطقة وأصحاب الأراضي الزراعية على تسليم نسب متفاوتة تتراوح ما بين /15%/ إلى /20%/ من محاصيل الزيتون التي تشتهر بها أراضي عفرين كنوع من الضريبة، كما تم الاستيلاء على أراضي المزارعين الذين رفضوا تسليم هذه النسب لقياديي الفصائل، في حين لجأت فصائل أخرى أكثر تطرفاً كفصيل “حركة أحرار الشرقية” إلى معاقبة المزارعين الممتنعين بإحراق أراضيهم أو قطع أشجارهم تحت ذريعة تأمين التدفئة لمسلحيها خلال فصل الشتاء.
وبين أحد تجار زيت الزيتون في عفرين لـ “أثر برس”، أن إنتاج المعاصر من زيت الزيتون للعام الحالي انخفض إلى ما دون /10%/ عما كان عليه خلال الأعوام الماضية نتيجة قلة موسم الزيتون الذي أنتجته الأراضي الزراعية سواء نتيجة الضريبة المفروضة على هذه المحاصيل، أو بسبب أعمال السرقة والتحطيب الجائر التي تعرضت لها أراضي المنطقة طيلة الأشهر الفائتة.
ولم تكتفِ الفصائل المسلحة الموالية لأنقرة بمسألة فرض الضرائب ونهب المحاصيل في عفرين، بل سجل أيضاً حسب مصادر “أثر برس” إجراء عمليات نقل ملكية بالجملة لمئات الهكتارات من الأراضي الزراعية الواقعة في شمال وشرق المنطقة، والتي كان قد غادرها أصحابها سابقاً نتيجة الحرب التي عاشتها عفرين، إلى أسماء بعض قادة الفصائل بمباركة من الجانب التركي.
يذكر أن القوات التركية والفصائل المسلحة الموالية له وعلى رأسها فصائل “الجيش الوطني”، “أحرار الشرقية”، فرقة الحمزة”، ولواء “السلطان مراد”، كانوا قد بدأوا في العشرين من شهر كانون الثاني/ يناير مطلع العام الجاري، عملية عسكرية استهدفت السيطرة على منطقة عفرين وطرد الوحدات الكردية منها تحت مسمى عملية “غصن الزيتون”، واستمرت المعارك لنحو /3/ أشهر متتالية تمكن الأتراك في نهايتها من اقتحام مدينة عفرين واحتلالها بعد تمكنهم من إسقاط جميع الأرياف المحيطة بالمدينة، باستثناء بعض القرى الواقعة في الجهة الجنوبية الشرقية من المنطقة.
زاهر طحان- حلب