لا يمكن لأحد أن يجادل حول سوء الأوضاع المعيشية والخدمية في الداخل العراقي وبأحقية مطالبات الشعب في هذا البلد الذي يملك الكثير من الموارد الطبيعية التي من المفترض أن تأخذه إلى صورة مغايرة تماماً لواقعه البائس الحالي، لكن لا يمكن لأحد أيضاً أن يتجاهل المشهد السياسي والعسكري الذي آلت إليه المنطقة ولمصلحة من هذا الحراك الحالي الذي لا يمتلك رؤية واضحة.
هذا الحراك الذي يأتي في توقيت مماثل لحراك العام الفائت، يتوازى مع شعارات تعكس صورة “المُحرّك”، في هذا التوقيت من هذا العام، وخصوصاً بعد فشل كل المحاولات الأمريكية والخليجية بإطباق الحصار على إيران والتي تعتبر الجار الأُقرب وقد تكون أول المتأثرين بالحراك الشعبي العراقي، لتُدخل بذلك الشعب العراقي المتعطش للإصلاح في معادلتها السياسية وتدفعه للدخول بهذه المعادلة المستحيلة الحل والتي من شأنها أن تزيد الوضع العراقي سوءً، والذي تعتبره الإدارة الأمريكية رداً على الصفعات التي وجهتها إيران ضد المصالح الأمريكية والسعودية في مختلف ملفات الشرق الأوسط. وخصوصاً في أزمة منطقة الخليج العربي والحرب على اليمن.
فعلى الساحة السعودية والتي أثبت إحصاءات إلكترونية بأن لها دور كبير في هذا الحراك بدليل أن أكثر من 60% من الهاشتاغ المنتشر “العراق تنتفض” كان مصدره المملكة السعودية، فالأخيرة تسعى إلى رد الصفعة الإيرانية التي جاءت بأيدي جماعة أنصار الله، بغض النظر عن نتائج هذا الرد الذي يبدو بأنه سيكون على حساب العراقيين.
هذا الدفع السعودي يأتي مع تماهي في المصالح الأمريكية التي تعمل وفق استراتيجية غير مباشرة وتريد منع فتح الطريق من طهران إلى بيروت عبر العراق مروراً بالأراضي السورية، فبعد تمكن القوات السورية والعراقية من إعادة فتح هذا الطريق، يبدو بأن الأمريكيين يريدون قطعه “سياسياً” عن طريق العراق.
إعادة فتح معبر البوكمال – القائم
من خلال متابعه سياق المظاهرات يبدو من الواضح بأن الهدف من تلك الاحتجاجات هو إسقاط حكومة عادل عبد المهدي الذي لا يلتزم بما تمليه الولايات المتحدة في العديد من الملفات وأهمها فتح معبر البوكمال – القائم الذي يعتبر من الخطوط الحمراء للولايات المتحدة.
مارس الأمريكيون ضغوطاً هائلة على الجانب العراقي منعاً لعودة الحياة إليه، عرقلوا في كثيرٍ من الأحيان عمليات استعادة تلك المناطق على الجانب العراقي، ولاحقاً عمليات تطهيرها، رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، عرقل هو الآخر إعادة الحياة إلى هذا الشريان الحيوي، صبّ اهتمامه على خطٍّ آخر: بغداد – عمان، مانحاً تأمينه إلى شركاتٍ أمنية أجنبية، وتحديداً أميركية، أراد العبادي، تحت الضغط الأميركي، تحييد العراق عن أي خطوةٍ من شأنها تنفيس الخناق الممارس من واشنطن على دمشق، إلّا أن عادل عبد المهدي، كانت رؤيته مغايرة، أوْلى الانفتاح على جيران العراق أهميةً قصوى، بدءاً من الأردن فالسعودية وتركيا وإيران وانتهاءً بسورية دون النظر إلى ما يزعج الأمريكيين.
موقف أكبر مرجعية دينية في العراق والمتمثلة بـ”السيستاني”، يبدو ومن خلال بيانه بأنه يؤدي دوراً بارزاً في المساعدة على إطفاء الفتنة وهو ما من شأنه إضعاف الموقف الأمريكي – السعودي كونه سيمنع شريحة عراقية كبيرة من الانقياد خلف ما يريده الأمريكيين.
لا نعلم ما تخبئه الأيام القليلة المقبلة إلّا أنه وفي حال ثبات الحكومة الحالية فإن الهزيمة ستكون مدوية للأمريكيين ولن يتمكن السعوديين من دفع العالم لتناسي ضربات أرامكو ونجران والتوجه للحديث عن “قمع المظاهرات” في العراق.
نعود ونذكر بأنه لا يمكن لأحد إغفال الحالة المعيشية والخدمية المأساوية في العراق وحقوق الشعب العراقي بالتظاهر لتحسين الأوضاع، لكن على العراقيين أن يتعلموا أيضاً من تجارب شعوب المنطقة، ويتذكروا أن كل حراك يدعمه الأمريكيون لا يصب في مصلحة هذا البلد وبأن الفوضى لن تؤدي إلّا إلى تراجع الأوضاع الاقتصادية والمعيشية أكثر مما هي عليه الآن، لأنه من أهم عوامل النهوض الاقتصادي لدى الدول استقرار الحالة الأمنية.