ربما تكون تلك هي المرة الأولى التي تتعدى فيها الولايات المتحدة الخطوط الحمراء المرسومة مع طهران منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران قبل 4 عقود، لتكسر كل الأعراف والخطوط الحمراء الدبلوماسية والدولية والعسكرية وتغتال بشكل علني ومباشر عبر جهازها العسكري “الرجل الثاني في إيران” و”أقوى شخص في الشرق الأوسط”، كما وصفه كبار ضباط الاستخبارات الأمريكيين.
الاغتيال الذي كاد يشعل فتيل حرب طويلة الأمد في المنطقة، تسعى لتجنبها الطبقة السياسية في أمريكا بشكل كبير بعد تجارب فاشلة في فيتنام والعراق وأفغانستان وغيرها من الدول، فماذا فعل قاسم سليماني كي تخاطر واشنطن وحلفائها (السعودية إسرائيل) لأجله وتكسر كل الخطوط الحمراء؟
تعتبر منطقة الشرق الأوسط من أهم مسارح العمليات للولايات المتحدة على مدى عقود، وتحتل أهمية كبيرة لدى الإدارة الأمريكية بسبب وجود الكيان الإسرائيلي ولأسباب جيوسياسية واقتصادية حاكمة.
خلال العقدين الأخيرين لم تعارض معظم حكومات الشرق الأوسط رغبات الأمريكيين وإملاءاتهم، باستثناء بعض الحكومات، وبعض التيارات المقاومة التي تشكلت كردود فعل على الاحتلال أو تدخلات بعض الدول، تلك التيارات المتباعدة جغرافياً وآيديلوجياً، كانت تتغذى عسكرياً ولوجستياً وخبراتياً من مصدر واحد، هو “المايسترو” أو ضابط الإيقاع الذي أبدع من كل تلك الأصوات نوتة واحدة عنوانها لا “للهيمنة الأمريكية”، لا “للإسرائيليين”، نعم لإرادة الشعوب وسيادة الدول، ليشكل منها محوراً متنامي القوة، من اليمن في الجنوب إلى لبنان في الشمال، ومن العراق في الشرق إلى قطاع غزة غرباً، ويتمكن بحنكة قائد استثنائي من فتح فضاءات محور المقاومة على بعضها، حتى باتت طريق القدس تمر من كل مدينة هنا وهناك.
اثنان وعشرون عاماً أثقلت كاهل الولايات المتحدة وإسرائيل
تسلم سليماني مهامه كقائد لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني عام 1998 ليقضي نصف حياة العسكرية في هذا الفيلق، الذي أريد له أن يحمل اسم القبلة الأولى للمسلمين في فلسطين، مشكلاً حجر عثرة متنامي أمام الأمريكيين في الشرق الأوسط ويعرقل كل الخطط الأمريكية في العراق وأفغانستان وباكستان وغيرها من المناطق، قبل أن تبدأ الحرب على تنظيم “داعش”، الذي خٌلق لينسي الشعوب العربية وحشية “إسرائيل”ـ لكن سليماني تمكن من استثمار ما يجري ليولد من صلب المشروع الأمريكي مقاومات شعبية ضد الأمريكيين أنفسهم، ويبدأ بعمليات عسكرية واسعة على امتداد سورية والعراق، أنهاها بدحر الأداة الأمريكية “داعش”، وبإعادة وصل خط طهران بيروت من جديد، عبر دمشق وبغدادـ وهو الخط الذي يرى فيه “الإسرائيليون” التهديد الأكبر لأمن كيانهم، ليعود ويذكر الشعوب العربية بأن عدو العالم ليس “داعش” بل من أنشأها، ويعيد البوصلة إلى “القدس”.
دعم مالي وتسليحي لا محدود
في الوقت الذي تتقاطع فيه الخطط الأمريكية والإسرائيلية والسعودية، التي تهدف إلى سحق إرادة المقاومة من الشعوب العربية، كان قائد فيلق القدس يخط درباً في الاتجاه المعاكس تماماً، درب فيه لكل صوتٍ لمقاومة الكيان الإسرائيلي، مكان، عبر الدعم المالي لحركات المقاومة الفلسطينية “السّنيّة”، ومقاومة اليمن “الزيدية”، ولقوات الدفاع الشعبي المحلية في سورية والعراق مهما اختلفت طوائفها وأديانهاـ ولعل آخر مقاطع الفيديو التي أثارت الجدل في الأوساط العربية كان للقيادي في حركة حماس محمود الزهار، والذي تحدث فيه عن دور سليماني، بمنح حكومة حماس آنذاك 22 مليون دولار.
القيادي بـ #حماس #محمود_الزهار: "#قاسم_سليماني سلمنا 22 مليون دولار في أول لقاء بيننا.. وكان راجل صادق"#إرم_نيوز pic.twitter.com/ZjSChqQ9Fa
— إرم نيوز (@EremNews) December 28, 2020
كل ماعليك أن تكون مقاوماً، وسيصلك السلاح إلى أقصى بقاع الأرض
من حزب الله في لبنان إلى حركات المقاومة في فلسطين المحتلة ومؤخراً إلى اليمن والعراق وسورية لم يتوانى سليماني عن إيصال الأسلحة والذخائر لتلك الحركات بطرق قد لا يعلمها إلّا هو ومن معه، فالجيش الإسرائيلي الذي يعتبر من أكثر الجيوش تطوراً في مجال الرقابة التكنولوجية لم يستطع كشف الآلية التي تمكن بها سليماني من إيصال الأسلحة إلى داخل فلسطين المحتلة. طوع الرجل علاقات إيران الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية لخدمة القضية الفلسطينية تارة، واستفاد من حماسة الشعوب العربية المتعطشة لتحرير فلسطين حين خانت الأنظمة قضيتها المركزية، فشكل جسراً لا مرئياً يصل إلى قلب فلسطين، قد يكون غريباً أنه مر يوماً ما عبر السودان أو مصر أو غيرهما. وفي هذا السياق تحدثت صحيفة “صاندي تايمز” في تقرير لها بأن الطائرات الإسرائيلية قصفت نقاطاً داخل السودان عام 2012 كانت لمعامل صواريخ تقوم بتهريب رؤوس الصواريخ المتفجرة من السودان إلى مصر لتدخل إلى قطاع غزة “المحاصر” وكانت تلك العمليات تتم بإشراف الجنرال سليماني.
ما ورد هو نبذه صغيرة لكمٍ هائل من الإنجازات الكبيرة التي حققها سليماني على مدى السنين الفائتة والذي حوله إلى “أخطر قائد في الشرق الأوسط” بالنسبة لخصومه، فالأمريكيون لم يتوقعوا يوماً أن شاباً من عائلة وقرية متواضعة في جنوب شرق إيران كان ليقف بوجه مشروع أعتى دولة في العالم، كما لم يتوقع الإسرائيليون أن شخصاً في بلاد تبعد عنهم أكثر من 1000كلم سيناضل لدعم كل من يناوئهم، ويكون فلسطينياً كالفلسطينيين ولبنانياً كاللبنانيين، وسورياً كالسوريين، وعراقياً كالعراقيين، ويمنياً كاليمنيين، تلك الشخصية الجدلية التي يستعديها الكثيرون ويناصرها الكثيرون، يتفق الجميع على أنها شخصية استثنائية، وأن ظلالها لا تزال تخيم على القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط، وبأن المشروع الذي أسست له على مدى 20 عاماً الماضية لن يتفكك، قبيل إخراج الولايات المتحدة من المنطقة برمتها.
رضا توتنجي