خاص|| أثر برس لم تكن القنبلة التي هزت شارع الاستقلال في منطقة تقسيم وسط إسطنبول سوى إعلان تركيّ لموسكو وواشنطن بأن الهدنة في الشمال السوري قد انطوت، وأن الهدوء الذي خيّم في ميدان الاشتباك منذ آذار 2020، ستخرقه دبابات القوات التركية وجنودها، للقضاء على الوحدات الكردية، وفق ما صرّح به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطابٍ وُصف بالعسكري.
إذ طوى به أردوغان سلسلة التهديدات التي كان يلوّح بها منذ آب الفائت لاحتلال منطقتَي منبج وتل رفعت شمالي سوريا، منفّذاً عملية (المخلب-السيف) الجوية، ومخترقاً للمجال الجوي السوري على مرأى من القوات الروسيّة والأمريكيّة المنتشرة، لإجبارهم على التنسيق معه، وخصوصاً أنه جمع الملفات التي كان فاعلاً فيها منذ بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
إن التصعيد العسكري التركي في الشمال شهد انحساراً مع بداية الجولة 19 من مفاوضات الدول الثلاث الضامنة في (صيغة أستانة)، وبدا أن هناك اتّفاقاً حصل بين روسيا وإيران وتركيا، إذ إن تصريحات موسكو وطهران في الاجتماعات كانت لافتة بشأن تفهمها للمخاوف الأمنية التركيّة، على خلاف ما حصل في قمة طهران الماضية بين رؤساء الدول الثلاث، وفي هذا الصدد، أكد المحلل السياسي كمال الجفا في تصريح لـ “أثر”، أن “اجتماعاً أمنياً عُقِد لبحث الهواجس الأمنية المشتركة بين سوريا وتركيا وإيران والعراق، وتم الاتفاق على وضع خطة لإنجازها في غضون أسابيع تقضي بتقويض سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية – قسد”، بهدف دفعها دفعاً إجبارياً للتفاوض مع الدولة السوريّة”.
وعن ملف التقارب التركي–السوري، أوضح الجفا أن “هناك تغيّراً في الموقف السوري، من جهة التعاطي بشأن الخلافات مع تركيا، وأن الخطة التي تم الاتّفاق عليها، ستكون بتفاهم روسي–إيراني، يضمن عدم احتلال تركيا للأراضي السورية، وعدم إنشاء منطقة أمنية داخلها، مع تأكيد وحدة وسلامة البلاد”، على حين يرى المحلل السياسي المتخصص بالشأن التركي أحمد الإبراهيم في حديث لـ “أثر”، أن “المنطق التركي في التقارب الذي يدّعيه أردوغان لا يصب في المصلحة السوريّة، إذ يريد الرئيس التركي من الجانب السوري إطلاق تسمية الإرهابيين على “قسد” وقتالهم وعدم التفاوض معهم، في المقابل يدعو إلى حوار عناصر الجماعات المسلّحة من غير السوريين؛ القادمين من طاجكستان و تركمانستان و أوزباكستان.
ربما ما أكده وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف في وقت سابق، عن اتخاذ (اتفاقية أضنة) الموقّعة عام 1998 بين سوريا وتركيا منطلقاً للمفاوضات بينهما؛ حلاً للمخاوف التركيّة التي ترى أنقرة بأنها تهدد أمنها، غير أن “الجفا” لفت إلى أنه “على الرغم من أن تركيا لا ترفض توسيع هذه الاتفاقية من جديد، فإنّها ما كانت تقبل به سابقاً لن تقبل به اليوم؛ لوجود مطالب تتعلَّق بالتسوية السياسية وقضية اللاجئين وحل الفصائل المسلحة، ومخرجات أستانا، بالإضافة إلى أنها تريد موقفاً سورياً معلناً في مواجهة “قسد”، معتبراً أن قسد هي التي تقف في مواجهة تفعيل (اتفاقية أضنة)؛ لأن موقفها كان سلبياً فيما يخص انتشار الجيش السوري على الحدود مع تركيا.
وفي موازاة تقاطع مصلحة إيران وروسيا مع تركيا، بشأن الوضع في الشمال السوري، أعلن البيت الأبيض في تصريح له أن واشنطن تتفهم المخاوف التركيّة، فيما بدا بمثابة ضوء أخضر أمريكي لأردوغان بالسماح له باجتياح عسكري للشمال السوري، وتزامن هذا الإعلان مع تسريبات نقلتها صحيفة “حرييت” التركية، تفيد بأن واشنطن تقدمت بعرض إلى أنقرة يقضي بإبعاد عناصر “الوحدات الكردية” مسافة 30 كم عن الحدود السورية – التركية. وفي هذا السياق قال الجفا لـ “أثر”، إنه “توجد محاولة أمريكية لإرضاء تركيا باجتياح الشمال السوري، وهذا يرسّخ الوجود الأمريكي وسيطرتها على حقول النفط في شرقي وشمال شرقي سوريا”، مضيفاً: “إنه ليس من المستبعد دخول تركيا في عملية عسكرية، لكن ذلك من شأنه تصعيد الوضع شمالاً، وأن يزيد من تعنّت أنقرة في مفاوضاتها مع دمشق؛ فالعملية ليست من مصلحة دمشق، كما أنها ليست من مصلحة “قسد”، إذ ستخسر كل مؤسساتها المدنية، وسيتحول مقاتلوها إلى حراسة المنشآت التي تسيطر عليها أمريكا في البادية من دون قاعدة لهم، فواشنطن لاتهمّها “قسد”.
من جهته، أكد الإبراهيم لـ “أثر”، أن “أمريكا تغازل تركيا، لطالما أن سياسة الرئيس التركي تصب ضمن مشروع (الشرق الأوسط الكبير) الذي أوكل إلى أردوغان، إذ سبق أن أشار إلى ذلك صراحةً بقوله: أنا المدير الإقليمي لمشروع الشرق الأوسط الكبير ومكلّف بمهمة عليّ تنفيذها”، مشيراً إلى أن “الرئيس التركي يسعى إلى بناء كيان إسلامي يمتد من شمال العراق إلى البحر المتوسط مروراً بالشمال السوري؛ لوضع المتطرفين واستخدامهم وقت الضرورة”، موضحاً أن ذلك يحدث على مرأى الأمريكيين والأوروبيين.
وأوضح الإبراهيم أن “تصريحات المسؤولين الأتراك في حزب العدالة والتمنية بما فيها الرئيس التركي ليس لها أي علاقة بالسياسة الخارجية التركيّة؛ لأن ما يهم أردوغان هو البقاء في السلطة وهذا يتطلّب منه إرضاء شريحتين في تركيا للحصول على الأصوات الانتخابية، الأولى: هي شريحة اليسار، وتضم حزب الشعب الجموري، والليبراليين الأتراك الذين دعموا أردوغان منذ استلامه الحكم عام 2002 ثم تخلّى عنهم، وهم يدعون إلى التقارب مع سوريا، وإنهاء ملف اللاجئين السوريين، والثانية: تمثلها الحركة القومية بقيادة دولت بهتشلي وحزب الخيرالتي تعد حلب وإدلب بأنها أراضٍ تركيّة، ويقوم أردوغان بالعمليات العسكرية لإرضائهم”. لافتاً إلى أن “الرئيس التركي سوف يفوز في الانتخابات الرئاسية لطالما أن مهمته ضمن المشروع الأمريكي في المنطقة باقية، وقضية اللاجئين ماهي إلا ورقة، إذ تم البدء ببناء معسكرات اللاجئين عام 2009 قبل اندلاع الأزمة السوريّة”.
يشهد الشمال السوري تعقيدات عنوانها وجود دول تتصارع لحفظ مصالحها المتعارضة، في وقت يقف فيه الرئيس التركي أمام اختبار فعلي لجهة تحديد خياراته بين تفاهمه مع موسكو أو انحيازه إلى حليفته واشنطن في حلف الناتو، غير أن الرئيس التركي قد أكد أنه من غير الممكن له التنازل عن الدعم الأمريكي لـ “قسد”، وعليه، يبدو أن الصراع سيكون طويل الأمد.
علي أصفهاني