أنطاكية هي إحدى المدن التي تأثرت تأثراً كبيراً بفعل الزلزال الذي حدث بتاريخ 6 شباط 2023. وضاعف من حجم كارثتها الزلزال الجديد الذي ضرب في 20 شباط، فتحولت إلى عاصمة الدمار والقلق بكل معنى الكلمة. وبات واضحاً بعد كلا الزلزالين أن عدداً من الأماكن في هذه المدينة التاريخية تحولت إلى ركام من الأنقاض. عدد من الأماكن التاريخية والتراكمات الثقافية إما تدمرت بالكامل أو تعرضت لأضرار بمستويات مختلفة ضمن المأساة التي أدت إلى فقدان عشرات آلاف من البشر حيواتهم، وموت الحيوانات. للأسف إن عدداً من الأماكن المقدسة مشمولة بهذه اللوحة المظلمة.
المقال صدر عن جمعية “نحنا” اللوائية، المختصة بحماية التراث اللوائي عموماً، وحماية الآثار الأرثوذكسية بشكل خاص، للكاتب هاكان ميرتجان: أكاديمي من لواء اسكندرون، يعمل مدرساً جامعياً في ألمانيا، وترجمه محمد سلطان.
وجامع “أولو” الذي أنشأه المماليك في القرن السادس عشر تدمر بالكامل. وأحد المباني الأخرى المتهدمة في أنطاكية كان كنيسة الكاثوليك البروتستانت. المبنى الذي أنشئ عام 1920، اعتُبر عام 2000 رسمياً أنه كنيسة بروتستانت بعد أن دخل الخدمة في عهد الفرنسيين سفارةً ومصرفاً. كما تدمرت كنيسة القديس بطرس والقديس باولوس للروم الأرثوذوكس بنسبة كبيرة، والتي تملك خواص تاريخية. قال رئيس الوقف “فادي هوريغيل” في تصريحه: «سقط الجرس، وصمت الأذان، وتصدع الحزّان». موضحاً بذلك أن أنطاكية، التي هي واحدة من المدن الثلاث الكبرى في العصور القديمة، سوف تولد مجدداً من رمادها.
بالإضافة إلى دور المعتقدات في مركز المدينة، تدمرت أيضاً منازل أنطاكية القديمة “الحبيبة” وشوارعها وعدد من مبانيها. على سبيل المثال، انهار البناء الذي أنشأه المهندس المعماري الفرنسي “ليون بينجو” عام 1927 عند منطقة “رأس الجسر” التي تُعتبر قلب المدينة النابض. إذ استخدم هذا البناء مجلساً لدولة “هاتاي” بين عامي 1938-1939. وانهار بالزلزال الذي حدث في 20 شباط مبنى المحافظة في “هاتاي” الذي تأسس عام 1928. كذلك لحقت الأضرار بمبنى بريد أنطاكية وثانوية أنطاكية، ومبنى البلدية القديم، ومركز تشهير وبيع الأعمال الحرفية اليدوية في هاتاي، إذ يمتد عمر هذه المباني إلى نحو قرن تقريباً.
ونرى عدداً من المعابد ضمن الدمار الكبير الذي حدث في مناطق خارج مركز المدينة أيضاً. إن كنيستي “السيدة مريم” للروم الأرثوذوكس و”القديس إيلياس” للروم الأرثوذوكس في السويدية (صمان داغ) من ضمن المباني التي تضررت بفعل الزلزال. تلقّت كنيسة الأرمن “أسدوادزادزين” ضرراً في زلزال 20 شباط. أما كنيسة “مار تقلا” تمكنت من النجاة بآثار طفيفة. إن الحالة الجيدة لكنيسة “بتياس” (باتي آياز) للأرمن، والحالة الجيدة لمقام “الخضر” التاريخي الذي يخطر على البال عند ذكر اسم “السويدية”، والذي يحظى بأهمية كبيرة وخصوصاً من العلويين، من ضمن الأخبار المطمئنة في مجمل هذه الآلام.
دُمرت كنيسة “قرقخان” “صرب كريكور لوسافوريتش” للأرمن بالكامل في زلزال 6 شباط، والذي أنشئ عام 1830 والذي لم يحظ بجماعة منذ زمن بعيد، كما أنه مهمل أيضاً. إن مقامي الشيخ “يوسف الحكيم” والشيخ “درويش” في الحربيات من ضمن المنشآت التي تجاوزت زلزال 6 شباط وتعرضت لأضرار في زلزال 20 شباط ولو تعرضاً طفيفاً. كما تدمرت كنيسة “السيدة العزراء” في قرية “توكاشلي” في “ألتينوز” بالكامل والتي يظن أن تاريخها يمتد إلى 700 عام. كما تعرضت كنيسة “القديس جرجس” للروم الأرثوذوكس، والتي يمتد تاريخها إلى القرن الرابع عشر، في حي “صاريلار” في “ألتينوز” إلى أضرار فادحة.
ووقعت كذلك أضرار كبيرة في كنيسة “مار جرجس” في “اسكندرون” التي أفيد بأنها أنشئت في القرن السادس عشر، وكنيسة “غريصون” في “اسكندرون” للأرمن الكاتوليك، وكنيسة السريان الكاتوليك في “اسكندرون”، فقد حدث دمار بنسبة كبيرة في كنيسة “العزيز نيقولا” للروم الأرثوذوكس والتي أنشأت في “اسكندرون” في بدايات عام 1870، وفي كنيسة اللاتين للروم الأرثوذوكس الذي يمتد تاريخها 150 عاماً تقريباً.
للأسف إن كنيسة “مار يوحنا” للروم الأرثوذوكس التي تملك تاريخاً يتجاوز الخمسمئة عام في “أرسوز”، من ضمن الأماكن التي تدمرت بالكامل.
ومن ضمن الأماكن المتأثرة بالزلزال، كنيسة “سانت بطرس” في أنطاكية والتي تعتبر من أقدم الأماكن المقدسة في المسيحية والتي أعلنها بابا الفاتيكان “بولس السادس” مكاناً للحج عام 1963. يعزينا قليلاً أنه لم يُهدم إلا الجدار الاستنادي لكنيسة “القديس بطرس” المُعترف بها أنها أقدم كنيسة مغارة في العالم. كما يعزينا في سلسلة الكوارث هذه عدم مجيء أخبار عن انهيار بالمزارات المقدسة عند العلويين العرب سوى القليل من التشققات الضئيلة في بعض المزارات.
إن إجراء جرد كامل للإرث الثقافي المدمر والمتضرر يتجاوز حدود هذا المقال الصغير. غايتي هي تسليط الضوء على حجم الدمار الحاصل في هذه الأماكن المقدسة وعدد من الإرث الثقافي الذي يتساءل عنه كثير من الناس.
ما يجب فعله بعد الآن هو محط حديث مختلف. ولكن أول ما يجب قوله للمعنيين في هذه المرحلة “لا تؤذوا”. إن بقايا هذه الأماكن التاريخية المهدمة ليست حطاماً عادياً. لا يجوز التدخل فيها في هذه المرحلة بطريقة عبثية. ويجب وضع هذه الأماكن تحت الحماية مع حطامها. لا يمكن تقرير إعادة إنشاء هذه الأماكن لاحقاً وطريقة إعمارها سوى بمشاركة منظمات المجتمع المدني المكونة من العلماء والأشخاص والمؤسسات المختصة الموثوقة على الصعيد الوطني والدولي.
كلمة أخيرة، مرة ولكنها حقيقية، للأسف لقد تدمرنا بالكامل على حين غرة من دون سابق إنذار كمجتمع وكأحياء وطبيعة وكتراكم تاريخي وثقافي. إن الآهات غير كافية. لم يأت الوقت لنصر جراحنا بعد. لم نرفع جنازاتنا بعد. لا نعرف بالضبط من فقدنا! تدمرت إحدى المدن الفريدة. دخلت جغرافيا ذات ابتسامة عاصية الحداد. لن يعود أي شيء إلى سابقه بعد الآن، بما فيهم نحن. ولكننا لن نستسلم لظلمة يائسة. ما زلنا ضمن الأنقاض ولكن علينا النهوض من ضمن الركام. سنستمر بالسير بآلامنا وذكرياتنا وبابتساماتنا العاصية في شوارعها التي سنبنيها مجدداً. ستعود أصوات أبنائنا لتملأ حدائقها. سيعود العشاق لتناول الهيطلية مجدداً بنظرات خجولة، وسيغط العجائز في مسامرات في ظلال الأشجار التي تمتد جذورها إلى أعماق التاريخ. سيمدهم “عفان” بالشاي. سيطول دور الأطفال المتحمسون إلى أقدار الهريسة. سيشتعل البخور. وسننبت من جديد.